ليس في الأفق ما يشير إلى استئناف مفاوضات جنيف. لقاء فيينا للمجموعة الدولية لدعم سورية لم يسفر عن شيء. فالتفاهم الأميركي – الروسي بلغ أقصاه. لم يعد هناك ما يمكن أن يقدمه وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى نظيره الروسي سيرغي لافروف. لم يعد بمقدوره أن يتجاهل مواقف شركاء معنيين بالأزمة السورية، من أوروبيين وعرب وأتراك. وبلاده ليست مستعدة للمساومة أو إبرام صفقات مع روسيا. دخلت في السبات الانتخابي، فترة ستستمر نحو سنة، والهم داخلي ولا شيء عداه. فيما روسيا تواصل ترميم الوضع في سورية. ولا تزال تبحث عن وزير للدفاع وتنهمك في إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية المنهكة. وتبرم هدنة هنا وهدنة هناك مع فصائل معارضة من دون أي اعتبار لسلطة النظام ورأيه وموقفه! وخففت من انخراطها المباشر في الميدان، إلا حين تدعو الضرورة كما فعلت عندما استولى تنظيم «داعش» على حقل الشاعر النفطي واندفع نحو مطار تيفور العسكري ونحو مدينة تدمر التي لم تمر أيام على تنظيفها من الألغام، وعلى الحفلة الموسيقية التي أقامها الروس. فيما ضاعفت إيران والميليشيات المتحالفة معها عملياتها العسكرية مستفيدة من الهدنة الهشة ووقف الأعمال العدائية، ومن تناحر الفصائل الإسلامية في ريف دمشق ومواقع أخرى.
وقفَ المسار السياسي في العقبة. لم يعد في جعبة كيري سوى التوكيد على الهدنة الصورية وتهديد القوى التي تخرقها بعدم شمولها بوقف النار. كأن القتال توقف! بل بدا والوزراء الآخرين في المجموعة عاجزين عن إيصال المساعدات إلى آلاف المحاصرين والمهددين بالجوع. فلجأوا إلى خيار إلقاء المساعدات من الجو. أما نظيره الروسي فكرر المعزوفة نفسها: «نحن لا ندعم الأسد بل ندعم القتال ضد الإرهاب». والعقبة في التفاهم بين أميركا وروسيا، وفي طبيعة الهدنات المتفق عليها. واضح تماماً أن ليست هناك آلية لإلزام المتصارعين بوقف الأعمال القتالية. وواضح أن النظام وحليفه الإيراني يستعجلان تحقيق مزيد من الانجازات على الأرض على رغم كلفتها العالية. فالرئيس الأسد الذي يقلقه ما يخبئ الكرملين في جعبته لا يبدي أي استعداد للتخلي عن السلطة مهما كلف الأمر. وطهران التي لم تهضم بعد تداعيات الاتفاق النووي، تحاذر المجازفة بتغيير جذري وسريع في سياساتها حيال الولايات المتحدة والغرب بعد عقود من تنشئة مجتمعها على معاداة هذا الغرب. تحتاج إلى مزيد من الوقت مع شعورها بالحاجة الماسة إلى هذا التغيير. ولا تبدي تالياً أي استعداد لتفاهمات مع جيرانها. علماً أنه لا يغيب عن بالها أن مواقعها في الإقليم لم تعد كما كانت من قبل. ثمة تحولات كبيرة من اليمن إلى العراق وسورية. بات لها شركاء كثر وأقوياء. ويخشى أن يؤدي تصلبها وانخراطها العسكري الواسع في سورية، فضلاً عن العراق، إلى إغراقها في هذا المستنقع واستنزافها. فهي مهما بالغت في تصوير قوتها لا تضاهي الاتحاد السوفياتي وما كان عليه يوم غزوه أفغانستان.
وتركيا أيضاً تمر في تحولات داخلية مفصلية وجذرية لا تسمح لحزبها الحاكم أن يقدم على مزيد من التنازلات. لا يمكن أنقرة أن ترضى بكف يدها نهائياً عما يجري في العراق وسورية، أو بعزلها عما يرسم لمستقبل هذين البلدين. ولا يمكنها أن التغاضي عن تنامي قوة الكرد في شمال شرقي بلاد الشام. وتقلقها روابطهم مع حزب العمال الكردستاني، وهي تخوض حرباً واسعة مهم، ومعركة سياسية في برلمانها مع من تعتبرهم ذراعهم السياسية في البلاد. ولا شك في أن غيابها عن رسم الخريطة العتيدة للمنطقة قد يعرض خريطتها هي لخطر التعديل وإعادة نظر. ولا يمكن واشنطن أن تذهب بعيداً في تجاهل مواقف تركيا التي كانت ركناً أساسياً في «الناتو» أيام الحرب الباردة، وهي قد تستعيد هذا الموقع في مواجهة صعود روسيا وتقدمها الميداني في أكثر من مكان. مثل هذه التحولات تشهده دول عربية عدة على رأسها دول مجلس التعاون التي تخوض معارك على جبهات عدة: من التحولات في بناها الاقتصادية بعد تدني أسعار النفط، إلى إنهيار النظام العربي وغياب الدول الكبرى في الجامعة عن ساحة القرار والتأثير. ومن التدخلات الخارجية الواسعة والمتعددة في شؤون الإقليم إلى انكفاء الحليف الأميركي التاريخي وتبدل تحالفاته وأولوياته واهتماماته. ولا تحتاج الاستراتيجيات الجديدة التي ينهجها مجلس التعاون للرد على كل هذه التحديات إلى شرح، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان، فضلاً عن شمال أفريقيا.
لذلك يصعب رسم صورة واضحة للمشهد الاستراتيجي في الإقليم قبل أن تبلغ هذه التحولات نهاياتها، وقبل أن يستقر الصراع بين كبار المنطقة على هدنة أو صيغة صفقة تراعي مصالح الجميع وأمنهم. وهذه عقبة بين عقبات رئيسية تعترض طريق الحد الأدنى من التفاهم بين القوى الكبرى المعنية بتسوية أزمات المنطقة أو الأقل بإدارة هذه الأزمات للحد من أخطارها وتداعياتها، خصوصاً أزمة سورية. وبين هذه العقبات في تفاهم أميركا وروسيا أن الأولى لا تملك قوة على الأرض توفر لها أداة فاعلة لممارسة ضغط فعلي على الأرض، في وجه النظام وحليفيه الروسي والإيراني. وتولي الاهتمام الأول لمحاربة «داعش» و«النصرة» في سورية والعراق. بينما تستعجل موسكو التسوية مع الإدارة الحالية. لكن ثمة تبايناً بين الطرفين في كثير من عناصر هذه التسوية، خصوصاً حيال مصير الرئيس الأسد ومستقبله، فضلاً عن مفهوم المرحلة الانتقالية. وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا اقترحتا، لتحريك مفاوضات جنيف، إقامة حكومة محايدة من الطرفين المتصارعين في سورية لا تضم رموزاً إشكالية. أي ما يشبه صيغة «المحاصصة» التي اقترحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي غاب عن باله عقم هذه الصيغة في العراق ولبنان. لكن الاقتراح لم يلقَ قبولاً.
وتدرك واشنطن أن موسكو تمارس الشيء ونقيضه. فهي تكرر أنها لا تدافع عن الأسد بل عن النظام ومنع انهيار الدولة. وتترك مصيره للسوريين. وهي توحي بأن الانتخابات التي ستلي المرحلة الانتقالية السنة المقبلة كفيلة بإسقاطه. ولن يكون بمقدوره أن يحظى بأصوات ملايين السوريين اللاجئين في بلادهم أو خارجها. علماً أن فريقاً كبيراً من أهل الساحل لا يبدي استعداداً لتجديد البيعة له إذا قدر لتسوية سياسية أن توفر لهم ضمانات مستقبيلة، بعدما وفر لهم الحضور الروسي العسكري حماية كافية. كما أن هذا الاستحقاق سترعاه الأمم المتحدة ولا يمكن النظام التلاعب بنتائجه. وتتذرع موسكو بأنها لا تملك التأثير الأقوى على الرئيس الأسد علماً أن تدخلها في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي أنقذه من انهيار وشيك. تتذرع بالتأثير الطاغي لإيران. وقد سعت قبل ايام إلى إحراج واشنطن، فدعتها إلى التعاون في قتال جبهة «النصرة» وغيرها من الحركات الإرهابية، أو التعاون في تحرير الرقة. ولكن جاءها الرفض سريعاً. فالعرض لم يكن الأول. سبق للكرملين أن اقترح باكراً التعاون مع التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. لكنه لم يلق جواباً.
والواقع أن إدارة باراك أوباما لا ترغب في أن تنخرط أكثر في تعاون ثنائي ستقطف روسيا ثماره. فروسيا باتت محط اتهام أطياف المعارضة السورية و «أصدقائها» بأنها تسعى إلى حماية النظام، وتصطف مع إيران في هذا المجال. وهي بذلك بدأت تستعدي أهل السنة. ولا تريد واشنطن أن تركب هذا المركب. يكفيها ما لحق بصورتها في عيون حلفائها التقليديين. ويكفيها غضب هؤلاء من سياستها المترددة، وانكفائها عن التدخل أو ممارسة الضغوط اللازمة لإرغام الروس على تبديل سياستهم وإلزام النظام في دمشق التخلي عن وهم الحسم العسكري، والانخراط في العملية السياسية جدياً. أبعد من ذلك لا ترغب واشنطن التي تخطط لتحرير الرقة في أي تعاون مع موسكو التي ستفيد من أي انجاز وتوظفه في خانة النظام وقواته وقوات حلفائها من إيرانيين وغيرهم من الميليشيات. وبالتأكيد ليس من مصلحتها أن تبدو كأنها إلى جانب دمشق فيما تتهمها المعارضة بأنها تخلت عنها لمصلحة خصومها. وهي في العراق تحاول ترجمة مثل هذا التوجه. فقد طلبت من «الحشد الشعبي» عدم التوغل في ضواحي الفلوجة. إذ تخشى أن يستثمر تنظيم «داعش» مثل هذا التوغل للميليشيات الشيعية في دفع فصائل سنية لم تبايع التنظيم إلى المشاركة في مواجهة الزاحفين نحو المدينة. أي أن تقف هذه، من «جيش المجاهدين» إلى «كتائب ثورة العشرين» في صف «الدولة الإسلامية». غير أن سعي الولايات المتحدة إلى الاعتماد على «وحدات حماية الشعب» سيثير غضب المعارضة بغالبيتها العربية. وقد يدفع عشائر الجزيرة إلى أحضان المتطرفين للدفاع عن مناطقهم. مثلما يثير غضب تركيا.
في أي حال ما يغيب عن بال المتصارعين جميعهم أن مرحلة الانتظار حتى نضج الظروف واستقرار المشهد الاستراتيجي قد تكون مكلفة. الوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية يهدد بانهيار كل شيء. وتشير الأرقام في هذا البلد إلى انهيار وشيك. فالليرة تتداعى يومياً. ولم تعد حكومة دمشق تسمح باستيراد أي شيء لا علاقة له بمعيشة الناس ومأكلهم. وهذا التدهور ينسحب على الوضع في العراق واليمن. فهل يملك اللاعبون خططاً للتعامل مع هذه الأخطار التي تهدد المنطقة كلها ومصالح الجميع فيها، حتى تنضج ظروف التسويات، وتتضح صورة التحولات في الإقليم؟ وقف الانهيارات في الإقليم بات يحتاج إلى دينامية جديدة ومقاربات مختلفة لا يفيد فيها ترف الانتظار وتقطيع الوقت، خصوصاً في سورية التي يتحول أهلها نهباً للجوع والعصابات فضلاً عن القتل والتدمير والتهجير.