عروبة الإخباري – في حديث نشرته جريدة «أخبار اليوم» المصرية مع راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية، وردت على لسانه تصريحاتٌ لافتة، إذا صحّت، فإنها تشكّل جديدًا كبيرًا حتى في مسيرة الغنوشي ومساره. وقد تواردت خلال الأسبوعين الماضيين أخبارٌ عن اعتزام الغنوشي في المؤتمر العام للحركة، الإعلان عن الفصل التام بين «الدعوي» و«السياسي» في تنظيمه، بحيث تصبح الحركة حزبًا سياسيًا بحتًا تقيدًا بالدستور، وتصبح المسائل الدعوية والدينية أمرًا آخر تتولاه جهةٌ أخرى مستقلة لا علاقة لها بالحزب السياسي للنهضة.
لقد أكد الغنوشي هذه المسألة في حديثه مع الصحيفة المصرية. لكنه أضاف لذلك ثلاث قضايا أخرى. فقد أدان مسيرة الإخوان المسلمين في مصر والعراق وليبيا، ورأى أنها أدت إلى دمارٍ في هذه البلدان العربية الكبرى. وشدّد على البُعْد الوطني في حركة النهضة التونسية، وقال إنه ليس مستعدًا للتضحية بتونس البلد والثورة لأي اعتبارٍ آخر. ومضى للقول إن حاضر العالَم وعلاقات المسلمين به هي مسائلُ لا يجوز تجاوُزُها أو القفز فوقها، وسط هذا المخاض الكبير المُسيء للإسلام والمسلمين بسبب انشقاقات التشدد والتطرف والعدوان على الذات وعلى العالم.
إن الواضح أن السنوات الخمس الماضية، وتطوراتها في مصر وتونس على وجه الخصوص، تركت آثارًا عميقةً في تفكير الغنوشي وتوجهاته السياسية. فقبل عام ونصف العام، وفي اجتماع سري لـ«دولية الإخوان» بإسطنبول حضره الغنوشي وزعماء إسلاميون آخرون من مصر وسوريا وغيرهما، وجّه الغنوشي نقدًا قاسيًا لحركة الإخوان المصرية، وحمَّل قادتها المسؤولية عن الانكسارات التي أصابت الحركة الإسلامية بعامة، والتجربة المؤسية بمصر على وجه الخصوص. وقد تميزت حركة النهضة التونسية بالفعل عن حركات الإسلام السياسي الأخرى بعد متغيرات عام 2011، حيث تخلّت الحركة عن السلطة عام 2013 بعد تجاذُبات كبرى بداخلها، وخرجت من واجهة الحياة السياسية ولا تزال، رغم الانشقاقات التي حصلت في حزب «نداء تونس» الحاكم، التي كانت حركة النهضة تستطيع استغلالها لو أرادت العودة إلى السلطة بأي ثمن!
تعود العلةُ في ذلك كلِّه، إلى فهم الإسلام السياسي لنفسه ودوره، منذ بروز أطروحات: الإسلام دين ودولة، وضرورة الاستيلاء على السلطة من أجل تطبيق الشريعة واستعادة الشرعية في الدولة والمجتمع من هذا الطريق. وفي هذه الأُطروحات تغييرٌ كبيرٌ لعلاقات الدين بالدولة، ودور كلٍّ منهما في إدارة المجتمع والدولة. فالمعروف في الإسلام السني التقليدي أنّ السلطة السياسية هي مصلحيةٌ وتدبيريةٌ، ولا علاقة لها بأركان الدين أو شؤون الاعتقاد، وإنما المنوطُ بها وحسْب، إدارة الشأن العام بما يُصلِحُهُ – كما يقول فقهاء الحنابلة – «بحيث يكون حالُ الناس أقرب للصلاح، وأبعد من الفساد». أما الدين والشريعةُ، فإنهما مترادفان. والشريعةُ والحالُ هذه مطبَّقة، ولا حاجة للاستيلاء على السلطة من أجل تطبيقها، أو يكونُ معنى ذلك أنّ الناس غير مكتملي الإسلام، وأنهم بحاجةٍ لـ«الإخوان» لإحقاق دينهم أو استعادته! وقد كانت هناك اجتهاداتٌ قبل الثورات، من أجل تسهيل الأمر على الناس وعلى العالم من حولنا، فقيل إنّ المرجعية العليا هي للدين أو الشريعة، أما النظام السياسي أو إدارة الشأن العام، فالشأنُ فيها شأنٌ مدني وتعددي وديمقراطي، والدولةُ على هذا تبقى دولةً مدنية. بيد أن هذه التأويلات والتسهيلات ما وجدت تصديقًا لها في الدستور المصري الذي كُتب في ظل الثورة و«الإخوان»، في حين كان الدستور التونسي المكتوب أو المعدَّل بعد الثورة مختلفًا تمامًا. فهو مدوَّنةً مدنيةً بالفعل، وليس فيه شيء عن تطبيق الشريعة أو أنها المصدر الرئيسي في التشريع، كما ورد في المادة الثانية من الدستور المصري، وهو النصُّ الذي أدخله على الدستور الرئيس المصري أنور السادات عام 1972 ولم يخرج بعد ذلك!
وبالفعل، فإنّ الافتراق الظاهر بين الدستورين، بدا بوضوح في اختلاف سلوك إسلاميي مصر وإسلاميي تونس، عندما وصل كُلٌّ منهما للسلطة بعد الانتخابات في عامي 2012 و2013. أما إخوانُ مصر فقد مالوا بحجة حصولهم على الأكثرية في الانتخابات إلى الاستيلاء على سائر السلطات، والحكم بمفردهم. بينما حافظت حركة النهضة على تحالفاتها مع الأحزاب الأصغر، فما ترشح أحد منها لرئاسة الجمهورية، ولا تولى أحد منها رئاسة مجلس النواب، وما بقيت طويلاً في رئاسة الحكومة. أمّا الطريف، فهو أنّ إخوان مصر ورغم استيلائهم على سائر السلطات، فإنهم بسلوكهم في السلطة ما اختلفوا – رغم دعاواهم في الاختلاف النوعي للخلافة الموعودة – عن أي نظامٍ استبدادي آخَر! ولو التفتنا إلى النظام الآخر الذي يقوده حزب العدالة والتنمية الإسلامي بتركيا، لوجدنا أنه في تصرفاته لا يختلف كثيرًا عن الأنظمة العسكرية الانقلابية، التي حكمت تركيا لأعوام طوال. أما النظام الثالث في المشرق، الذي أقام دولةً دينيةً بالفعل فهو النظام الإيراني، حيث يتمتع المرشد بسلطاتٍ مطلقة، لا تختلف أيضًا عن تصرفات الأنظمة الأوحدية في أميركا اللاتينية أو البلاد العربية، في أزمنة العسكريين والعقائديين.
إن التجربة الرئيسية لفشل الإسلام السياسي، هي بالطبع التجربة المصرية. لكن ما له دلالة هو ما ذكره الغنوشي في حديثه إلى «أخبار اليوم» عن العراق وليبيا. فبعد الغزو الأميركي للعراق سادت فيه الأحزاب الشيعية الطائفية (حزب الدعوة الحاكم مثلاً)، ومثّل السنّة فيه الحزب الإسلامي، وهو أحد فروع الإخوان المسلمين. والتجربة العراقية تجربةٌ مأساويةٌ بكل المقاييس. أما التجربة الليبية فهي فضيحةٌ كبرى للأحزاب الدينية. فـ«الإخوان» يسودون في غرب ليبيا، متحالفين مع ميليشيات محلية مسلَّحة تزعُمُ كلُّها أنها حركاتٌ إسلامية!
هل تشير تصرفات حركة النهضة في تونس إلى إمكان وجود مستقبلٍ أفضل لإحدى صيغ الإسلام السياسي؟ يمكن أن يكونَ الأمر كذلك. إنما بشرط التخلّي الواضح والصريح عن الاستنصار بالإسلام من أجل الوصول للسلطة. فالذي ينبغي أن يعرفه الجميع أنّ دفع الدين إلى بطن الدولة يشكّل خطرًا على الدين قبل الدولة. لأنه إذا ظلَّ الأمر على هذا النحو بحيث تتصارع حركاتٌ إسلاميةٌ مسلَّحة (مثل «داعش» و«القاعدة» ومتفرعاتهما) للوصول إلى السلطة، فإنّ هذه الانشقاقات تُهدّدُ الإسلام ذاتَه في سواده الاجتماعي، والسكينة والتماسُك، اللذين يبثهما الدينُ في العادة في الاجتماع الإنساني. فالذي ينبغي إدراكُهُ بعمق ضرورة حماية الدين من السلطة أو من التغول على السلطة، وليس العكس! وربما كان ذلك هو ما يحاول الغنوشي القيام به حمايةً لتونس وللإسلام.
تطورات الإسلام السياسي بين المغرب والمشرق/رضوان السيد
11
المقالة السابقة