عروبة الإخباري- الداخل إلى منطقة حي العامل الواقعة جنوب غربي بغداد والمتجول بين أغلب أزقتها وشوارعها المتواضعة تستوقفه كثرة العبارات الثأرية، والشعارات الطائفية المكتوبة باللون الأحمر والأسود، وهي تغطي معظم جُدران المباني وعلى جانبي شوارع الحي ومنازل العرب السُنّة ومحالهم التجارية. ومن هذا الشعارات «مطلوب دم للعشيرة»، و«ارحلوا يا أحفاد يزيد ومعاوية»… إلخ.
وليس هذا فحسب بل تجاوزت إلى ما هو أبعد من ذلك. فعمليات التطهير المنظمة، والتصفية الجسدية ضد من تبقى من أفراد لتلك الأسر السُنّية في ازدياد. ويبدو أن تضييق الخناق لإجبارهم على ترك ديارهم تارة بالترهيب وتارة ثانية بالتهديد لا يهدأ وأدى، في بعض الحالات إلى التشيع خوفا من البطش والانتقام.
محمد الجنابي (30 عاما) يقطن مدينة العامل مع أسرته وأبناء عمومته منذ قرابة 20 سنة، نشأ وترعرع في حي بسيط شعبي يُطلقون عليه تسمية «حي الجنابيين»، لأن أغلبيته الساحقة من المكون السُني، وتحديدا قبيلة الجنابي.
يقول لـ «القدس العربي» إن أعدادا واسعة من عشيرته وأقاربه اضطروا للرحيل بعد حملة التهجير والقتل والاعتقال والحصار والتوتر الأمني العالي الذي شهده هذا الحي. ولذا اختار البعض اعتناق المذهب الشيعي الإثني عشري، والزج بأبنائهم للتطوع في صفوف الميليشيات كسرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر، وعصائب أهل الحق التابعة لقيس الخزعلي، وسرايا الخرساني، ولواء أبو الفضل العباس، وكتاب حزب الله، وفصائل شيعية مسلحة أخرى تنشط في العراق، والدافع الجوهري وكل هذا من أجل الحفاظ على ممتلكاتهم، وحماية أنفسهم، ولعدم مغادرة مدينة الآباء والأجداد، إذ لا يستقيم لهم العيش في مكان آخر».
وتابع الجنابي حديثه عن تعرضهم لهجمات بربرية شرسة تقودها ميليشيات الحشد الشعبي» «إنها تخطط لإخراجنا من الحي، والاستيلاء على بيوتنا تحت تهديد السلاح، مستخدمة أنواعا مختلفة من وسائل الإقناع وأولها الترغيب. ثم يأتي الترهيب والعنف لإفراغ الحي من الموطنين الُسُنّة. فهم باتوا يجبروننا على تبديل ديننا، وترك عقيدتنا حتى نصبح شيعة إن أردنا العيش بسلام آمنين معهم، والذي يرفض العرض لا يلومن إلا نفسه، والخيارات متاحة أمام الميليشيات للتصرف معه».
ووفق قول الجنابي فإن «الجماعات المسلحة لا تتورع ولو للحظة عن خطف الأطفال والنساء، وتشترط إطلاق سراحهم مقابل مساومتنا على ترك ديارنا بالقوة».
ويضيف: «باتت المدينة في السنوات الأخيرة مرتعا لتجمع الميليشيات بمختلف فصائلها، وقاعدة رصينة آمنة لتدريب واستقطاب الشبان المتطوعين للانحراط في صفوف «الحشد الشعبي» من مخلتف مناطق العراق، ومن ثمّ الانطلاق إلى المحافظات التي تشهد معارك عنيفة مع مقاتلي تنظيم الدولة.
وأوضح: «هذه المليشيات تضيق الخناق عليهم في مسكنهم ورزقهم وتحاصرهم بكتل خرسانية ضخمة من جميع الجهات، وتضع فوقها أسلاكا شائكة. وتجد أن الحي السُنّي الوحيد معزول عن باقي الأزقة الشيعية المجاورة والتي لا تعاني هذه الإجراءات المشددة لا تفصلها عنه سوى أمتار قليلة، أو ربما شوارع أغلقت بحواجز اسمنتية، كأنه معتقل وسط هذه المناطق ذات الغالبية الشيعية».
وكانت ميليشيات شيعية قد اغتالت في وقت سابق الشيخ الشاب عثمان الجنابي، إمام وخطيب جامع أبو بكر الصديق عقب خروجه من صلاة المغرب، ما أحدث خللا أمنيا، وزاد من أعمال القتل والانتهاكات ذات الصبغة الطائفية تصاعد الأصوات التي تطالب بضرورة حماية السُنّة في حي العامل من عمليات القتل التي تقدم عليها الميليشيات، وخشية تكرار الأحداث الدامية التي شهدها الحي قبل سنوات، والتي سقط خلاها المئات من الطائفتين بين قتيل وجريح بمواجهات مسلحة.
الحاج أبو مؤيد فقد أربعة من أبنائه كان آخرهم الشهر الماضي. وقد قتل على يد ميليشيات مسلحة في وضح النهار هو جالس في محله لكسب قوت يومه، عندما أمطره مسلحون بوابل من الرصاص فأردوه قتيلا، وبعدها فرّ المهاجمون باتجاه إحدى نقاط التفتيش الرئيسية للمنطقة، وسجلت الجريمة ضد مجهول، بحسب رواية أبو مؤيد وحديثه لـ «القدس العربي».
ويضيف: «طيلة الفترة الماضية كنت أنا وأولادي نتلقى يوميا عشرات الرسائل والاتصالات الهاتفية التي تطالبنا بالرحيل عن الحي وترك محلاتنا – مصدر دخلنا الوحيد – والنجاة بالتالي من الاستهداف.
لكننا رفضنا الانصياع لهذه التهديدات. والسبب الحقيقي في عدم رحيلنا هو أننا كنا نفكر: أين نذهب؟ فنحن منذ عقود طويلة نسكن المنطقة، وإذا تركنا بيوتنا بطبيعة الحال سيتم استغلالها من الميليشيات ولن يسمح لنا ببيعها. وإرادة القدر جعلتنا نختار مرارة الموت على الذل. أما أبنائي الأربعة فأسال الله أن يعوضهم الجنّة ويرزقهم دارا خيرا من دار الدنيا لثباتهم على الرباط وتحمل أذى الميليشيات»، وفق تعبيره.