عروبة الإخباري- يدق رجال دين وخبراء ناقوس الخطر من “كارثة” محدقة بالمجتمع الفلسطيني جراء ظاهرة هجرة المسيحيين الذين لم تعد نسبتهم تتجاوز1 في المائة. القس نعيم خوري راعي الكنيسة المعمدانية في بيت لحم يحذر من “تحول الكنائس إلى متاحف”.
يقضي القس نعيم خوري راعي الكنيسة المعمدانية في مدينة بيت لحم وزوجته، جل وقتهم في رعاية الكنيسة وتقديم المواعظ الدينية، فقد هاجر أبناؤهم وهم أربعة إلى الولايات المتحدة الأميركية للدراسة، اثنان منهم استقروا هناك، في حين عاد أحدهم ليستلم مهام رعاية إحدى كنائس البلدة القديمة في مدينة القدس، أما ابنته فرجعت مع شهادة عليا في الإعلام والإنتاج السينمائي، لكنها لم تجد فرصة في سوق العمل في الضفة الغربية، لتعاود أدراجها وتستقر هناك إلى جانب إخوتها، الذين واجهوا نفس المشاكل عند تخرجهم.
وفي حوار معDWيعلّق خوري قائلاً: “إلى جانب العمل، يرغب الأبناء بتأمين مستقبلهم والارتباط وتكوين أسرة وهذا كله يحتاج إلى الأموال، لكن غالبية الشباب رواتبهم لا تكفيهم حتى نهاية الشهر، وشيئاَ فشيئاً ينتابهم شعور بالضيق وعدم القدرة على مواجهة متطلبات الحياة، فتتراجع معنوياتهم ونفسياتهم، وهذا ما حدث مع أبنائي”.
حال أبناء خوري، ينطبق على أبناء جواد حنا الذي يقطن في قرية الطيبة، شمالي شرق مدينة رام الله في الضفة الغربية، هاجر والده وعدد من إخوته في ستينيات القرن الماضي إلى الولايات المتحدة الأميركية، أما أبنيْ جواد، وهما ولد وبنت، فهاجرا قبل ستة أعوام بحجة الدراسة “لكن الهجرة كانت هدفهم الرئيسي” يقول جواد، مضيفا:”هاجر إخوتي بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وغياب فرص العمل، آخرهم هاجر قبل عشر سنوات، لكنه استطاع خلال خمس سنوات فقط أن يؤسس خدمة تجارية خاصة جعلت وضعه المادي ممتازا وأصبح يملك عدداً من البيوت، عمل أخي هنا لأكثر من 25 سنة لكنه لم يستطيع أن يحقق شيئاً (…) كل أفراد العائلة يملكون وثائق هجرة وأنا كذلك، لكن لا أفكر بالهجرة وأتمنى أن يعود الجميع ونعيش سوياً”.
وبحسب إحصاءات لدى كنائس بيت لحم، فان 85% من مسيحيي بيت لحم المهاجرين قد باعوا أملاكهم بالكامل، وأن جلهم هاجروا إلى أمبركا الوسطى أو اللاتينية، في حين تفضل أعداد قليلة منهم الاستقرار في الدول الأوروبية.
الشعور بعدم الأمان
وتساهم البطالة وقلة فرص العمل بالنسبة للشباب وعدم تكافؤ الرواتب مع المؤهلات العلمية والخبرات في هجرة الشباب أولاً وعائلاتهم ثانياً، وفي حوار مع DWيؤكد برنارد سابيلا أستاذ علم الاجتماع المشارك في جامعة بيت لحم، أن “السبب الرئيسي لهجرة المسيحيين يتمثل بالأوضاع السياسية المرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية”، ويوضح الخبير الفلسطيني “أن الأراضي الفلسطينية تعاني من ضعف كبير في النمو الاقتصادي وغياب فرص التنمية، والشباب لا يرون مستقبلاً لمشاريعهم”، ويستدرك قائلا إن “الكفاءات الشابة من المسيحيين التي تحتل مناصب مهمة جداً في المؤسسات المدنية العاملة في الأراضي الفلسطينية، تبقى قليلة، إذا ما تمت مقارنة نسبتها بإجمالي أعداد الشبان الباحثين عن فرص عمل”.
ويشير سابيلا إلى أسباب إقتصادية وإجتماعية أخرى تتمثل في “ضخ الأموال في خزينة الفلسطينيين، والتي تحدث نوعا من الرضا والاكتفاء ويبقى الأمن الشخصي هو الشغل الشاغل للمواطن”، لذلك فإن الحل السياسي والمهادنة -التي وإن حصلت فستكون مؤقتة-، ما بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، هما أحد مفاتيح الاستقرار على الأرض وأحد العوامل المخففة من حدة الهجرة سواء للمسلمين أو للمسيحيين” يستنتج سابيلا.
ومن جهته يرصد الدكتور إياد البرغوثي أستاذ علم الإجتماع بجامعة رام الله، ورئيس الشبكة العربية للتسامح أن” هجرة واضحة داخل المجتمع الفلسطيني، وخصوصا بين المسيحيين، فقد انخفضت نسبة التواجد المسيحي داخل فلسطين إلى حوالي واحد بالمائة فقط في الضفة الغربية وغزة بعد أن كانت 13 بالمائة”.
وفي حوار معDWالدكتور البرغوثي يؤكد”وجود أسباب متعددة وراء هجرة المسيحيين، منها الاحتلال الإسرائيلي، وتسهيل بعض السفارات الأجنبية لسفر المسيحيين، وتهجير، إلا أن ثقافة التعصب إن وجدت فهي تدعم أيضا هذا التهجير”.
الأسرة في مهب التحولات الإجتماعية
وفي تحليله للخلفيات الاجتماعية لهجرة المسيحيين من الأراضي الفلسطينية، يرى الأستاذ برنارد سابيلا أن المجتمع الفلسطيني المعروف بتعدديته الدينية والثقافية، أصبح “يسير في فضاء ديني وليس اجتماعي مدني”، مستنتجا أن هذا الأمر “يلقي بسلبياته على الشباب المسلم والمسيحي على حد سواء، فالعلاقات الطيبة التي كانت سائدة في السابق، أصابها مؤخراً بعض التوتر”.
أما السبب الاجتماعي الثاني فيمكن ربطه بالاختيارات الفردية للأشخاص في ظل مجتمع يركز على الحرية الشخصية، مما يضعف من قوة العائلة التي كانت في الماضي بمثابة جدار الحماية والأمان، لذلك تصبح الهجرة هروبا وتأكيدا على الاستقلالية. وفي سياق تحليله لدور الأسرة في ظاهرة الهجرة، يشير سابيلا إلى أن ارتفاع معدل سن زواج لدى الشبان المسيحيين، ويوضح”معظمهم يبنون أسرهم بعمر الـ 35 عام، وهذا أمر جعل معظم الأسر المسيحية الموجودة ذات أعمار كبيرة ومسنة”.
كما أن الروابط الأسرية القوية والمتماسكة بين الفلسطينيين باتت تتأثر سلبيا بالتغييرات الحاصلة في بنية المجتمع، وهنا تبرز “ضرورة مواجهة هذه التغييرات، وضمان توفير الحياة الكريمة للمسنيين بشكل خاص، وهكذا نمنع وصولهم لحالة من الفقر والعوز″. وهذا ما تخشاه السيدة إلفيرا التي تقطن في بيت لحم، مهد المسيح.
أكثر من عشر سنوات مضت ولم تر إلفيرا ابنها الأصغر الذي ترك المدينة متوجهاً إلى دولة تشيلي، كان هذا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1988، وهاي هي اليوم تعيش مع عمة أولادها، تعيل نفسها من خلال أجرة محل تجاري ورثته عن أهلها، وتتدبر أمور حياتها اليومية على قدر استطاعتها، فهي مسؤولة عن شراء الحاجيات ودفع الفواتير والقيام بأعمال المنزل، أما باقي وقتها فتقضيه في الكنيسة للصلاة وحضور المواعظ الدينية.
تقول السيدة السبعينية: “حياتي كانت صعبة، زوجي هو الآخر عمل لفترة طويلة في تشيلي، وأنا كنت اشتغل في سلك التعليم، وأعيل أسرتي وأهتم بأولادي، لكن المشوار لم ينته، فاليوم أصبحت وحيدة، أحسب مصاريفي بالورقة والقلم، ولا أحد يساعدني، وأشتاق لرؤية ابني وأولاده”.
“الوجود المسيحي في فلسطين على حافة كارثة”
يحذر القس نعيم خوري، من أن “الوجود المسيحي على أبواب كارثة تمهد إلى إمكانية تحول الكنائس في فلسطين إلى متاحف تفتح للسياح فقط”، مشيراً إلى أن عشر عائلات كانت تحت رعاية الكنيسة المعمدانية قد هاجرت، فالكنيسة حينها لم تكن قادرة على مساعدتهم وإيجاد البديل لهم.
وفي ظل قلة الإمكانيات، فقد باشرت الكنائس بالتركيز في مواعظها الدينية على أهمية الوجود المسيحي في فلسطين، وتفقُّد أحوال المحتاجين ومحاولة التخفيف من الأعباء المادية الملقاة عليهم وعلى أبنائهم، كما تنظم الكنائس نشاطات ترفيهية للأطفال والأزواج الشابة، كأسلوب للتخفيف من معاناة الفقراء الذين يتجاوبون مع هذه المبادرات، كما يقول راعي الكنيسة، لكن “العبء يبقى كبيراً، وبدون مساعدة الكنائس الغربية، يرى القس خوري أن “المشكلة ستتفاقم”.
ومن جهته أكد الدكتور إياد البرغوثي أن الشبكة العربية للتسامح تنفذ برامج تعاون مع الكنيسة”من أجل حث المسيحيين على البقاء، لان إخلاء فلسطين من المسيحيين، هي جريمة بحق فلسطين، فمنهم كان رواد القومية، والوطني”.
وبرأي برنارد سبيلا أستاذ علم الاجتماع، فإن خطورة هجرة المسيحيين من الأراضي الفلسطينية تهدد التعددية الدينية والتعايش داخل المجتمع الفلسطيني، ويوضح”اذا استمرت الهجرة على هذا المنوال فسيكون المجتمع الفلسطيني على أبواب غياب كلي للمسيحيين وخسارة للتعددية والتنوع الاجتماعي”، أما البديل الذي يقترحه الخبير الفلسطيني من أجل وقف الهجرة فيتمثل في “ضرورة خلق سياسات اجتماعية واقتصادية مشجعة، خاصة وأنه لا يمكن منع أي شخص من الهجرة في ظل غياب أساسيات الحياة الكريمة”.
وبحسب مصادر الكنائس الفلسطينية وخبراء محليين، فان عدد المسيحيين في القدس حاليا لا يتجاوز 8 آلاف مسيحي من جميع الطوائف، بعد أن كان عددهم 32 ألفا سنة 1945. ويبلغ عدد المسيحيين في الضفة الغربية الخاضعة للسلطة الفلسطينية حوالي 35 ألفا، ويناهز عدد المسيحيين في أراضي 48 حوالي 60 ألف مسيحي، أما الوجود المسيحي في قطاع غزة فيصفه الخبراء بـ”المأساوي”، حيث لا يتجاوز عددهم 1500 فقط، ويشكل مجموع المسيحيين في أراضي الضفة الغربية و48 وقطاع غزة حوالي 1 في المائة من مجموع السكان الفلسطينيين.(دوتشيه فيليه)