داود أوغلو بعد عبدالله غل. رجب طيب أردوغان لا يريد شريكاً في زعامته، لا في «حزب العدالة والتنمية» ولا في قيادة البلاد. لم يخفِ رغبته في تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي ليصبح مطلق اليد في كل شيء. وهو بدفعه رئيس الحزب، رئيس الحكومة، إلى الاستقالة، بدأ عملياً تنفيذ الانتقال من النظام البرلماني قبل تعديل الدستور. منظّر الحزب لم يعترض على هذه النقلة، وهو الذي كتب بيده نص التعديل في الحملة الانتخابية الأخيرة. مأخذ الرئيس أن رفيقه لم يستعجل التعديل الذي يتطلب توافقات وتفاهمات أساسية في البرلمان الذي لا تتيح تركيبته الحالية ذلك. وداود أوغلو كان يرغب في ممارسة دوره في إدارة السلطة التنفيذية. ولا يرغب في سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية، بمقدار ما كان يأمل بقسمة ولو بسيطة للحكم. لكن الأخير جرّده عبر اللجنة المركزية صلاحياته تعيين قياديين حزبيين في المحافظات. لا تحتمل البلاد حكماً برأسين. لا يتعلق الأمر بسوء الإدارة، أو بنجاح رئيس الحكومة أو فشله.
اختار داود أوغلو الخروج بصمت. كما فعل من قبل الرئيس السابق عبدالله غل أسير القصر… القديم. وضع مصلحة الحزب في المقدمة. لذلك، لا يتوقع أن ينهار «العدالة والتنمية»، بل ستتعزز سلطة الرئيس ليستفرد وحده بحكم البلاد والعباد. ولا يبدو أن أحزاب المعارضة المشتتة تملك القدرة على المواجهة. حزب الشعب الجمهوري اكتفى زعيمه كمال كيليجدار باعتبار أن ما حدث «مهد لنظام استبدادي». والأحزاب القومية الأخرى مشغولة بشؤونها الداخلية. وحزب الشعوب الديموقراطي وزعيمه الكردي يعاندان للبقاء. ولا يملكان ما يرد عنهما سوى التهديد بدعم الحرب التي يخوضها «حزب العمال» في شرق البلاد وجنوبها وحتى في الشمال السوري. فات كيليجدار وزملاءه في المعارضة أن تركيا التي يعرفونها ويدافعون عنها انتهت. لم تعد تلك البلاد التي رأت إليها الولايات المتحدة وشركاؤها في «الناتو» ركناً أساسياً في الدفاع عن الغرب في وجه الاتحاد السوفياتي وتمدده في المنطقة واندفاعه نحو المياه الدافئة. وذراعاً عسكرياً متقدمةً سكتت طويلاً عن قبضته الداخلية في سبيل المحافظة على هذه الذراع. وتركيا التي بدت كأنها تتقدم بتطوير بناها وقوانينها الديموقراطية لكسب عضويتها في الاتحاد الأوروبي لم تعمر. ولم تعمر أيضاً خطوات التفاهم لحل المسألة الكردية. سقط سريعاً الاتفاق مع حزب العمال على وقع الأزمة السورية وقضايا داخلية أخرى.
عمل «حزب العدالة والتنمية» منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، على التنمية وتطوير الاقتصاد، سلاحاً لترسيخ شعبيته وأقدامه في السلطة. وسرعان ما بدأ يتبدل بتنفيذ برنامجه الخاص لتغيير هوية البلاد بعدما أدار وجهتها نحو الإقليم. وأخذ البلاد نحو نظام متشدد يقبض على كل شيء. يكاد يكمل مصادرته وسائل الإعلام والصحافة التي تعارض توجهاته، من أجل كتم أصوات المعارضين، أحزاباً ومجتمعاً مدنياً. وحتى القضاء بدأ التشكيك في استقلاليته عن السلطة التنفيذية. ولم تسلم المؤسسات الاقتصادية الكبرى من قبضته. إلى أن وصل الأمر إلى تصريح رئيس البرلمان بالتوجه نحو إلغاء العلمانية في الدستور الجديد قيد الإعداد، على رغم نفي قيادات الحزب مثل هذا التوجه. وهو لا يزال يواجه خصومه والمعترضين بالتهويل على الشعب بأن هؤلاء يسعون إلى إطاحة المكتسبات الاقتصادية التي تحققت طوال العقد الماضي، ويهددون وحدة البلاد ويضعفون المواجهة مع حزب العمال الكردستاني. كل ذلك من أجل استنفار الناس وإعادة التفافهم حول الحزب.
سقط داود أوغلو تحت الضغوط ضحية مؤامرات «القصر» وأعوانه. لكنه ظل متمسكاً بوجوب الحفاظ على الاستقرار عماداً أساسياً للتنمية وتالياً للحفاظ على السلطة بيد حزبه. خلافات كثيرة عصفت بين رئيس الدولة ورئيس «العدالة والتنمية». فإلى «قضية التباطؤ» أو التمهل في إقرار دستور جديد ، ثمة من تحدث عن عدم رضا أردوغان على الاتفاق الذي أبرمه داود أوغلو مع الاتحاد الأوروبي في شأن اللاجئين من سورية. وعن تباين في التعامل مع القضية الكردية. وثمة عناصر في الحزب ساهمت في تعميق الهوة بين الرجلين. تحدثت عن مؤامرة أميركية لإطاحة رئيس الجمهورية وإحلال رئيس الحكومة والحزب مكانه. الآن وقد انتهت المواجهة بين «الرفيقين»، فالخوف ليس على الحزب ومستقبله القريب في السلطة. يبقى أقوى الأحزاب. ويظل رئيسه يتمتع بشعبية واسعة. الخوف على تغيير سريع لهوية تركيا، في ضوء التغييرات الواسعة التي أدخلها الحكم على النظام والمجتمع وثقافته ومؤسساته وعلى رأسها كف يد العسكر عن التأثير والفعل بعد عقود من الحكم منذ قيام الجمهورية غداة الحرب العالمية الأولى. والخوف على دور تركيا في المنطقة. الحزب أدار وجه البلاد نحو المحيط الإقليمي بعدما ذهبت طويلاً باتجاه الغرب الأوروبي. وكانت استراتيجية منظّره داود أوغلو تقوم على «صفر مشاكل» مع دول الجوار عموماً. فقد رغبت أنقرة في تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الشرق، وجسراً بينه وبين الغرب بما يعزز موقفها في حوارها مع الاتحاد الأوروبي وترسيخ أهميتها في العلاقة مع الولايات المتحدة. لكن هذه الاستراتيجية انهارت سريعاً مع هبوب عواصف «الربيع العربي»، خصوصاً في سورية.
استعجل «حزب العدالة والتنمية» تقديم نفسه نموذجاً لدول «الربيع العربي». هكذا، دخلت تركيا طرفاً في الصراعات المحلية والإقليمية، من ليبيا إلى مصر والعراق وسورية. وباتت في مواجهة حادة مع مكونات تخوض حروباً أهلية طاحنة في معظم هذه البلدان. وطرفاً في صراع مذهبي لا تخمد ناره. وهي اليوم على خلاف مع الولايات المتحدة في شأن سياستها الشرق أوسطية. لذلك، لم يتوانَ أنصار حزب العدالة الذين يتحدثون عن مشاريع ومخططات أميركية لإبعاد حزب العدالة عن السلطة من المناداة بعودة العلاقات مع إسرائيل التي شابها جمود منذ حادثة الباخرة «مرمرة» التي كانت تتجه قبل ست سنوات لخرق الحصار المضروب على قطاع غزة. وتركيا اليوم في مواجهة حامية مع روسيا الجار القريب لن يوفر تصاعدها آسيا الوسطى والقوقاز. وثمة من قرأ انفجار الوضع في ناغورنو قره باخ في إطار هذه المواجهة. ولإيران التي تتنافس معها في المنطقة العربية مصالح في وسط آسيا لا تقل عن مصالح الطرفين المتصارعين. «سلطنة أردوغان» محاطة إذاً بعدد وافر من الأعداء، على رأسهم سورية التي عولت عليها أنقرة بوابة واسعة تنطلق منها نحو الشرق الأوسط كله، ونحو شبه الجزيرة وحتى شمال أفريقيا. وستكون أول الخاسرين إذا تسنى للرئيس الأسد حسم معركة حلب بدعم روسي وإيراني، إذ سيشكل مثل هذا التطور ضربة قاسية لطموحاتها ودورها في الإقليم كله قبل أن يوجه ضربة حاسمة إلى لمعارضة السور ية برمتها و «أصدقائها» من العرب والأوروبيين. وسيلحق ضرراً بنفوذ «العدالة والتنمية» ويهز صفوفه في الأوساط الشعبية داخلياً، أين منه الأضرار الجانبية لاستقالة داود أوغلو؟! كما سيقوض صورته في أوساط القوى الإسلامية في المنطقة كلها. مثل هذا الحسم في حلب لمصلحة دمشق سيفاقم مخاوف تركيا على أمنها واستقرارها. سيتدفق آلاف اللاجئين ومعهم مزيد من المقاتلين المتشددين الذين سيضاعفون عملياتهم في أراضي «السلطان»، «دواعش» الداخل و «دواعش» الخارج!
إذا وقعت الواقعة وقدر للنظام استعادة حلب سترجح كفة إيران على غريمتها التاريخية. وتخرج بصورة القادر على حماية حلفائه. إلا إذا استطاع أردوغان لمرة واحدة تنفيذ تهديداته ووعيده للنظام في دمشق. وتجاهل تحذيرات الولايات المتحدة ورفضها إقامة «مناطق آمنة» أو مد الفصائل المقاتلة بأسلحة فعالة تخفف من سيطرة الطيران الحربي الروسي والسوري وغلبته. لقد نجح في ملاقاة أهل الخليج وإعادة وصل ما انقطع في السياسة معهم. وإذا استطاع إعادة الحرارة إلى علاقاته بالقاهرة يضمن عمقاً استراتيجياً لا توفره القاعدة العسكرية التي سيقيمها في الأراضي القطرية. لكن مثل هذا التحول سيرتب عليه التخلي عن مظلته لجماعات «الإخوان»، ليس في مصر فحسب، بل في ليبيا أيضاً حيث تبدو التسوية الدولية الحالية تتعثر بسبب «الغلبة» التي حصلت عليها أنقرة والدوحة في طرابلس على حساب القاهرة وقوى عربية أخرى تساند مجموعات الشرق الليبي والجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر. فهل يتخلى عن أيديولوجيته؟ هو اعتمد براغماتية توافرت لها ظروف ومعطيات. فقد نجح حتى الآن في لعبة الفصل بين الاقتصادي والسياسي، إذ على رغم المشاكل السياسية بين إيران ومصر، لا تزال تركيا تحتفظ بعلاقات اقتصادية وتجارية متينة مع البلدين. وهذه سياسة ثابتة لحزب العدالة. والبلدان الثلاثة كلها تحتاج إلى شراكات اقتصادية وتجارية ضرورية لمجتمعاته والتنمية. إنها أهداف ومصالح تتفوق على السياسة والخلافات مهما كانت عميقة. ولعل أبلغ مثل على ذلك نتائج الزيارة التي قام بها الرئيس حسن روحاني إلى أنقرة غداة بيان شديد اللهجة لقمة منظمة التعاون الإسلامي التي عُقدت في إسطنبول… والسؤال هنا هل يتفرغ داود أوغلو المنظر العقائدي لـ «العدالة والتنمية» بعد استقالته، لبناء استراتيجية جديدة عاجلة تحافظ على قواعد الحزب في الداخل، وتحفظ لتركيا دورها ونفوذها في النظام الإقليمي العتيد؟