لا تقع حالة الفوضى على أكتاف العالم العربي اليوم، بل أيضاً في عقل المواطن العربي نفسه، في عدم قدرته على تعريف وتحديد ما يحدث له، أو حوله، من صراعاتٍ داخليةٍ، وحروبٍ أهليةٍ، وأزماتٍ طاحنةٍ، وتمزّقات وطنية وسياسية.
إلى الآن، ما تزال الجهود المعرفية والعلمية والبحثية العربية في فهم ما جرى، منذ لحظة انبثاق الربيع العربي في العام 2011، إلى اليوم، ضعيفة ومحدودة وعاجزة عن تقديم إطار نظري متماسك، يخرجنا من حالة الفوضى والتخبط في تفسير ما يحدث، وفق منظور منهجي علمي عميق، يساعدنا على بناء “السياق العام” للأحداث، ليس فقط على صعيد التفسير، بل التنبؤ والفهم والتحليل، وربما حتى التحكّم فيما سيحدث لاحقاً.
ما نزال عائمين في أسئلةٍ حائرةٍ ومقلقةٍ وإجاباتٍ غير ناجزةٍ في محاولة فهم ما جرى وما يجري؛ لماذا حدث الربيع العربي؟ ما هي القوى التي أنجزت الثورات السلمية؟ ما هي العوامل التي خدمته، أو خذلته، هنا وهناك؟ ثم لماذا حدثت الانتكاسات لاحقاً؟ هل المشكلة في الثورة المضادة أم الأجندات الدولية والإقليمية؟ أم في المجتمعات العربية نفسها؟ هل المؤامرة في ثورات الربيع العربي نفسها أم الثورات المضادة التي قامت لإجهاضها؟ كيف نصنّف دور الجيش وأهميته؟ ثم كيف نفهم ما حدث لاحقاً؛ داعش والصراع الإسلامي العلماني وانبلاج الحروب الطائفية؛ هل المشكلة في التراث الإسلامي أم الواقع السياسي المجتمعي..إلخ؟
من دون أن نبني “المنهج” العلمي، ونضع الإطار النظري، سنبقى في حلقة مفقودة من عدم فهم ما يجري، ومن دون أن نفهم ما يجري في أيّ سياقٍ يقع من الصعب أن نخرج من هذه الورطة التاريخية الكبرى، إلاّ بطريقة المصادفة، أي أن نصطدم بالعوامل التي تؤدي إلى تغيير إيجابي، فتقود المجتمعات إلى مسار مختلف.
نوضّح أكثر المقصود، وأهمية ما نتحدّث عنه.. نحن اليوم أمام عدة مقارباتٍ، أو اتجاهاتٍ فكريةٍ غير مدروسة جيداً من الناحية العلمية، في تفسير ما حدث. الأولى هي الانهيار والفوضى والتفكك؛ أي أنّ ما يحدث هو نتيجة فشل الدولة القطرية والوطنية العربية، وعدم قدرتها على توفير الشرعية القانونية، وبناء التنمية في دول عربية كثيرة (هنالك نماذج خاصة بالطبع وتصنيفات متباينة للدول العربي ونماذجها)، وتفكك العقد الاجتماعي السابق فيها، من دون وجود عقد اجتماعي جديد، وهي في حالة انهيار للحدود الإقليمية والأنظمة الداخلية.
تقودنا هذه المقاربة إلى سياق متسلسل، يؤدي إلى ما يسمى سايكس بيكو2، وإلى انتهاء العالم العربي في صورته الراهنة، وإلى حالة تطاحن داخلي كبيرة، وقد يساعدنا المنهج العلمي والسياق النظري على بناء السيناريوهات المترتبة، من السيناريو أ (الإيجابي) إلى السيناريو (د) السلبي.
المقاربة الثانية أنّ ما يحدث هو حالة طبيعية في المراحل الانتقالية، وأنّ الثورات العالمية مرّت بمراحل متشابهة، وأزمات ومنعرجات، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، مع تقدير اختلاف النماذج الفرنسية عن البريطانية (الماغناكارتا) عن الأميركية، وهو ما يمكن أن نجد انعكاساتٍ له في العالم العربي.
وفقاً لهذه السياق، ليس ما يحدث انهياراً وفوضى بلا نتيجة فقط، بل هو فوضى خلاّقة، أي أنّها ستقود في مجتمعات عديدة إلى حالةٍ أفضل، وإلى انتفاضةٍ ديمقراطيةٍ، وإلى سلم داخلي، بعد حروبٍ، أو صراعاتٍ أهليةٍ، تأخذ مدى زمنياً.
المقاربة الثالثة هي المؤامرة، التي تستولي على نسبة كبيرة من عقول العرب، حتى النخب السياسية، وربما الأكاديمية، سواء من يعتقدون أن المؤامرة في الربيع العربي نفسه، أو هو في الأجندات الدولية والإقليمية لإجهاضه. وبالتالي، ما يحدث ليس مساراً داخلياً طبيعياً للأحداث، بل هو “عامل خارجي” دولي أو إقليمي.
في المحصلة؛ غياب الدراسات المعمقة والأطر النظرية والأدوات المنهجية المتينة التوافقية بين علمائنا، الذين يشبعوننا حديثاً عن أهمية المنهج في البحث العلمي، ثم ينسونه في قراءة ما يجري وتحليل الظواهر الاجتماعية اليوم، كل ذلك قد يجعلنا غير قادرين على الإمساك بنقطة التحول في مسار الأحداث، وإدراك ما هي القوى القادرة بالفعل على تغيير المجرى التاريخي الراهن.