متى، أين، وكيف وُلِد الشِّعر؟ لا أحد يملك جواباً جازماً. الباحثون يرجِّحون أسبقية الشِّعر على النثر، ربطاً بالغناء الذي بدأ تمتمات صوتية مبهَمة قبل أن يطورها الإنسان حروفاً وكلمات. منذ سومر وبابل والإغريق واليونان، ومنذ نشيد الأناشيد ثمة شواهد على أن الإنسان الذي ابتكر اللغة سبيلاً للتواصل والمنفعة، سرعان ما طورها أداة للتعبير عن مكنوناته ومشاعره التي ترجمها بدايةً رموزاً وإشارات حفرها على جدران المغاور والكهوف وعلى أدوات الصيد والقتال والطعام، لذا نجد أن النصوص «الأدبية» البدائية تدور حول الصيد والحُبّ والجنس قبل أن تتفرع لتطاول شتى الموضوعات من ولادة وموت وحرب وفخر ورثاء وبطولات.
لا نعرف كثيراً عن بدايات الشِّعر العربي وكيفية نشأته وتطوره، على رغم كثرة الأبحاث والدراسات في هذا الخصوص. يعتقد الباحثون، قدماء ومحدثين، عرباً ومستشرقين، أن السجع هو الجذر الذي وُلِدَ من رحمه الشِّعر العربي، وأن «الرجز أقدم أوزان الشعر العربي تولَّد من السجع مرتبطاً بالحداء ووقـــع أخـــفاف الإبل أثناء سيرها وسراها في الصحراء، ومنه وُلِدَت الأوزان الأخرى»، لكن شوقي ضيف الذي يورد ما بين هلالين في كتابه «العصر الجاهلي» يعتبر «أن هذا مجرد فرض، وكل ما يمكن أن يُقال هو أن الرجز كان أكثر أوزان الشِّعر شيوعاً في الجاهلية، إذ كانوا يرتجلونه في كل حـركــة من حركاــتهم وكــل عمل من أعمالهم سلِماً وحرباً».
ما يعنينا من هذا الاستشهاد علاقة الشِّعر ببيئته وانطلاقه منها نحو أمداءَ واسعة جعلته فناً ملتصقاً بالوجدان الإنساني من الصعب زواله أو انقراضه مهما بدا أحياناً أنه يمر بمراحل خفوت وشحوب. ولئن كان الشِّعر العربي وُلِدَ من سجع الكهّان والسحرة، تعاويذ عشق وبطولات ونوح ثكالى وبكاء على أطلال القبيلة والخلان، جاعلاً من خيمة البداوة سماء رحبة تتسع لكل ما يعتمل في نفس الإنسان، فإنه متى استعاد بعضاً من بساطة بيئته الأولى يغدو أكثر دفئاً وحميمية، أكثر صدقاً وتواصلاً مع متلقيه، كأنَّ القصيدة لا تستسيغ الثياب الرسمية وربطات العنق، وتصير أكثر حرارة وحرية متى ظلَّت عارية بلا تكلِّف أو تصنّع.
أمس قرأتُ شعراً في خيمة الأزبكية في عمَّان وهي مبادرة ثقافية غير رسمية تستعير اسمها من السّور القاهري الشهير بمكتباته وكتبه قديمها وحديثها، النادر منها والممنوع، وبالأسعار الزهيدة التي يتقاضاها الباعة ثمناً لتلك الكتب مقارنة بأسعار «المكتبات الفاخرة». خيمة جملية ببساطتها وبِكُتبها المعروضة لِقرَّائها بأثمان لا تثقل عليهم، وأجمل منها الآتون إليها وإلى حضرة الشِّعر لا كواجب اجتماعي أو مجاملة بل لأجل القصيدة نفسها، القصيدة التي «تَقُولُهم» وتلامس وجدانهم بلا حرَج أو مواربة. ففي مثل هذه الأمسيات تتحرر القصيدة من الأثقال والحمولات الزائدة، تعود إلى سيرتها الأولى، غزالةً تعدو في براري الخيال، يمامة تهدل في سماء الحنين، ووردة فوضوية في حديقة الفطرة والموهبة الخام.
لا يمكن للشعر إلا أن يكون معبِّراً عن المشاعر الإنسانية، لا يمكنه الانفصال عن آمال الناس وآلامهم وواقعهم وأحلامهم. كلُّ القصائد التي عبرت الزمن وتناقلتها الأجيال كانت محمَّلة بما نشير إليه، ما عدا ذلك تبقى حبيسةَ الكتب والأدراج. لِتحيا القصيدة يلزمها قطبان: كاتبها وقارئها، شرط أن تتحرر لحظة ولادتها من سطوة الثاني ولا تقع في فخ مداهنته وإرضائه على حساب القصيدة نفسها. الفارق شاسع بين أن تتبنى القصيدة وجدان قارئها وتعبِّر عنه، وبين أن تسعى لكسب وده على حساب جماليات من دونها لا يكون شعر ولا شعراء. مرةً أخرى: شريطة عدم الوقوع في التكلّف والتصنّع بذريعة الحرص على الجماليات.
القصيدة ليست ناطقاً رسمياً باسم أحد، لكنها في الوقت نفسه ناطق شرعيّ باسم عموم الناس.