قد تكون الرؤية السعودية للعام 2030، وما واكبها من مقابلات تلفزيونية مثيرة للانطباعات الجيدة، أحد أكبر التحديات التي أخذتها على عاتقها المملكة المدمنة على النفط، حسب تعبير الأمير محمد بن سلمان، مهندس هذه الرؤية المتضمنة أهدافا استراتيجية كبرى، تفضي إلى وضعنا أمام مملكة عربية سعودية جديدة، سواء في مرآة ذاتها، أو في منظور الإقليم والعالم اللذين استقبلا هذه الرؤية بإيجابية واهتمام بالغين.
وتأتي هذه الرؤية المعوّل عليها لتجديد صورة المملكة، وزيادة زخم فاعليتها في المحيط المجاور، في لحظة تاريخية فارقة لدولة مثقلة بالتزامات لا حصر لها، في مقدمتها أعباء الدور القيادي المستحق لها منذ “عاصفة الحزم”، ناهيك عن المتغيرات في سوق البترول، والتحولات في الاستراتيجية الأميركية تجاه هذه المنطقة التي بدأت تفقد أولويتها على سلم أفضليات الدولة العظمى الوحيدة.
ولا يتسع المجال لمقاربة مختلف الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الرؤية، التي يقع في مركز القلب منها هدف الانتقال بالبلد من اقتصاد ريعي وفوائض مالية متناقصة، إلى اقتصاد إنتاجي قوامه الاعتماد على النفس والاستثمار، وتحفيز القطاعات التصديرية، في إطار من الانفتاح والشفافية.
لذلك، سوف تقتصر هذه المطالعة على بعد واحد، أحسب أنه الأكثر أهمية بين سائر أبعاد هذه الرؤية المطروحة للنقاش العام، كونه البعد المركزي المحرك لهذه الرؤية، وطاقة دفعها الذاتية، وأعني به العقلية السعودية الشابة الجديدة المتقدة بشعلة دماء جيل ممتلئ بإرادة التغيير وروح المبادرة؛ جيل يأخذ المخاطر المحسوبة ويرى فيها فرصا كامنة، يفكر خارج الصندوق، يجازف من دون مغامرة، ويشد بصره نحو المستقبل، إن لم نقل إنه يستعجل قدومه.
وأحسب أنه إلى جانب خادم الحرمين الشريفين فإن هذا الجيل من الأمراء والمطورين والمديرين، وقادة الرأي المستنيرين، وغيرهم من عشرات آلاف المبتعثين، العائدين بخبرات مكتسبة من أفضل الجامعات الغربية، هم من نطلق عليهم تسمية “السعوديون الجدد” في تعبير مجازي عن روّاد عملية الانتقال بالاقتصاد والمجتمع السعوديين، من زمن الآباء المؤسسين، الذين أدوا المهمة بلا موارد وأنجزوها بصورة طيبة، إلى جيل الأبناء المفعمين بحيوية روح الشباب، وإرادة التجديد وحصافة التكيّف مع المتغيرات.
إذ لولا توفر مثل هذه الإرادة المتفتحة على متطلبات العصر ومفاهيمه الحديثة، ولولا تراكم معارف وخبرات مكتسبة، لجيل من الخبراء والمنظمين وذوي الأفكار الابتكارية، فضلا عن امتلاك أصول قيّمة وموجودات عملاقة، لما كان لخطة الطريق السعودية إلى المستقبل هذه أن ترى النور في هذه الآونة التي يعقد فيها العرب رهاناتهم بعيدة المدى على قاعدة ارتكاز قوية، قادرة على إعادة بناء منظومة مؤهلة لجبه جملة من التحديات المصيرية المحدقة بهم.
ولسنا في معرض تقويم هذه الرؤية التي يتوقف نجاحها المعوّل عليه، في الداخل والخارج، ليس فقط على إسناد القيادة، وإنما أيضا على شرط توفر جهاز تنفيذي كفؤ، وأدوات تنظيمية قادرة على التساوق مع النتائج المستهدفة، وفق معايير التحقق الموضوعة. وهي مسائل متروكة لعامل الزمن في المدى المنظور، إلا أنه يمكن القول بلا استدراكات زائدة، إن تحقيق ما نسبته 50 % من هذه الرؤية الاستشرافية لعصر الاعتماد على الذات، كفيل بإحداث ما يمكن أن نطلق عليه ثورة ناعمة.
ومن اللافت للانتباه، أنه في الوقت الذي كانت فيه القيادة السعودية تضع أسس هذه الرؤية، منذ نحو سنة، على الورق وخلف أبواب مغلقة، فإنها كانت تعمل بلا كلل على إعادة إنتاج منظومة عربية موازية، وربما تكون بديلة، لنظام عربي شائخ، لا حول له ولا قوة، وذلك حسب ما تشير إليه سلسلة التحالفات، العربية والاسلامية، المعقودة تباعا خلال الأشهر القليلة الماضية، بما فيها المجالس التنسيقية الاستراتيجية مع كل من مصر والأردن والمغرب.
ومع هذه الرؤية التي تخاطب الغد السعودي بذهنية متفتحة، وتستخدم لغة عصرية غير معهودة، ومفردات لم تكن متداولة في الأندية السعودية حتى الأمس القريب، تتجلى حقيقة أن هناك محتوى سعوديا جديدا لمفهوم العلاقات العربية، لا يقوم على عنصر النفط والتمويل، بل أيضا على شراكات سياسية وعسكرية، قد ترقى الى مستوى التحالف الأطلسي فيما بعد.