يستطيع السوريون أن ينزلوا عن بكرة أبيهم إلى الشوارع، هاتفين للحرية والشعب الواحد، ورافعين أعلام الثورة الخضراء التي يسمونها أعلام الاستقلال الثاني، إيمانا منهم بأن نظامهم الحالي ليس غير نمط وحشي من استعمار داخلي، سوري الاسم، صهيوني البنية والوظائف، يخاطبهم بلسان الصديق، ليخفي ما يكنّه لهم من عداءٍ، يدفعه لإبادتهم بلا رحمة، منذ أكثر من خمسة أعوام.
ويستطيع السوريون أن يتساقطوا عزّلاً برصاص الشبيحة والمرتزقة، وأن يذكروا، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، بسلمية مظاهراتهم، وأن يطالبوا بسحب جميع الأجانب من بلادهم، ويثبتوا براءتهم من دعوة أي أجنبي للقتال في وطنهم. ويستطيعون كذلك إدانة تدخل الخارج في شؤونهم، واستنكاره واستهجانه واستغرابه، لأنه دمرهم وأنقذ النظام الأسدي، وفي وسعهم أن يؤكدوا بأدلةٍ لا تقبل الدحض أنهم وحدهم ضحايا المتدخلين، وأن بلادهم غرقت في دمائهم، لأن هناك من انتزع قضيتهم منهم، وحولها إلى تصفية حساباتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ، لا علاقة لهم ولثورتهم بها.
يستطيع السوريون هذا كله، لكن ذلك لن يغير شيئاً مما روجه النظام وصدّقه موتورون وسذج حول إرهابيتهم، بدفع من الإيرانيين والروس، وتبنّ لاحق من الأميركيين، في سياق بررت هذه الأطراف من خلاله تدخلاتها في شؤونهم، وتبنت سعي النظام الأسدي المعزّز بجهودهم لتحويل ثورة شعبية واسعة من أجل الحرية إلى “مؤامرة إسلامية”، تقوم بها قلة من المندسين، في لغة النظام، وتنظيمات إرهابية في سياسات طهران وواشنطن وتل أبيب وموسكو ولغتهم.
… ما أن قامت ثورة تطالب الأسد بإصلاح يتولى قيادته بنفسه، حتى قال، في أول خطابٍ ألقاه ضدها: إن ما يجري ظاهره المطالبة بالإصلاح والحرية وباطنه مؤامرة إسلامية/ أصولية، يقودها إرهابيون اندسّوا في صفوف الشعب المغرّر به. وأضاف: إذا كانت هي الحرب، فأهلا وسهلاً بها … ونحن على أتم الاستعداد لها، وللقضاء على المندسين وحماية الشعب منهم. واليوم، يبدو بجلاء أنه نظف سورية من شعبها، ولم يبق فيها غير من ينفرد هو نفسه باعتبارهم مندسين/ أصوليين وإرهابيين. مع ذلك، يتبنى الإيرانيون والأميركيون والروس والإسرائيليون أكاذيبه، ويقبلون، بصمتٍ وسرورٍ، ما أنزله من كوارث بشعب سورية، ويرفضون إحالته إلى محكمة الجنايات الدولية كمجرم حرب، بينما يمتنعون، في الوقت نفسه، عن وقف جرائمه ضد بلادٍ يعاملها كأنها مجرد مزرعة بهائم، ورثها عن أبيه، بعبيدها الذين يجب أن يظلوا من دون حقوق، وخانعين، وإلا كان له الحق في قتلهم عن بكرة أبيهم.
واليوم، وبعد دخول ثورة الحرية عامها السادس، وعلى الرغم مما عاناه ويعانيه شعب سورية من قتل وتهجير وتشريد واعتقال وموت تحت التعذيب وإخفاء قسري وتمزيق… إلخ، تتجدّد مظاهرات الحرية، لترفض كل ما ينتهك وحدة الشعب السوري وسيادة دولته، وتتجدّد معها الهتافات السلمية والدبكات الاحتفالية التي تجري تحت إعلام ورايات ثورية لم يظهر بينها طوال ثلاثة أسابيع علم أسود واحد لمندسي الإرهاب والأصولية، الذين أرعبتهم هذه الظاهرة الخطيرة وجعلتهم يطلقون النار على المتظاهرين، على غرار ما يفعله النظام الذي يكرّر كالببغاء تهمه القديمة، ويرمي ثورة الشعب الوطنية والجامعة بالأصولية، ويدّعي أن رهاناتها التي عاشت تحت سطح الأحداث، خلال تعاون أجهزة قمعه مع الطغيان الإرهابي، حتى خال كثيرون أنه تخلى حقا عنها، هي رهانات أصولية، متجاهلا رفض السوريين هؤلاء وتمسكهم بالحرية، كمبدأ سيفيد منه كل سوري، مهما كان مذهبه أو انتماؤه أو موقفه.
بدل أن يراجع من تجنّوا على ثورة سورية وشعبها مواقفهم، ويعتذروا عمّا روجوه من أكاذيب حولها، تراهم ينكرون حتى حدوث المظاهرات، ناهيك عن سلميتها ومدنيتها، وينفون تعلق من يشاركون فيها بالحرية، وبوحدة مجتمعهم ودولتهم، ويكرّرون ما تكذبه وقائع الأعوام الخمسة الماضية حول أصولية الثورة ، لذلك يصدق عليهم المثل: “عنزة ولو طارت” الذي يقال للسخرية ممن يُنكرون حقائق جلية تراها أعينهم، ويصرّون على أكاذيبهم، لفساد في نفوسهم، ولأنهم في واقع الحال كالأسد: يخشون الحرية، ويشعرون باليأس والإحباط لأن انتصارها آتٍ، لا ريب فيه.