ثلاثة مشاهد معبرة من العاصمة الأردنية الأسبوع الماضي: المشهد الأول في إحدى مكتبات عمـّــان الصغيرة والمعروفة:
ـ أريد أن أخوض معك في موقفكم مما تسمونه ثورة سورية…
ـ الحقيقة لا مزاج لدي لذلك فأنا جئت هنا على عجل مدعوا على فنجان قهوة وقطعة كنافة نابلسية من هذا المحل المشهور المجاور ولاقتناء رواية نصحني بها أحد الأصدقاء….
واضح أن إجابتي لم ترق له فالتفت إلى من كان جالسا بجواره وكأنه يستأنف حوارا سابقا : لا تغفل أخي العزيز عن معطى هام جدا، لقد حقق الرئيس بشار ما عجز عنه كثيرون قبله تآمروا عليهم وأطاحوا بهم… خمس سنوات من الصمود… خمس سنوات كاملة لم يقدر على تحمل أقل منها لا صدام حسين… ولا الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفتش..
ها هو صاحبنا ينجح في استفزازي: ما قلته للتو سيدي هو ما منعني من الخوض في نقاش عقيم معكم لا طائل من ورائه… فهذا الذي تراه أنت بطلا لا أعتبره أنا سوى مجرم… لن تنجح أنت في إقناعي بما تراه وبالطبع لن أنجح أنا كذلك. لهذا من الأفضل أن نحتسي القهوة ونلتهم هذه الكنافة الساخنة ونذهب جميعا في حال سبيلنا. ثم لا تنسى شيئا هاما أخي، وأنا لا أعرف حتى من تكون، أنه لا أنت الفلسطيني أو الأردني ولا أنا التونسي من ندفع ثمن ما تراه أنت «بطولات» وما أراه أنا «جرائم»… السوري وحده من يدفع ذلك، إذن فلنحترم على الأقل معاناته ولا نزايد عليها… لا أنت ولا أنا!!
لاذ صاحبنا بالصمت وقد يئس تماما من أي فائدة في مواصلة الحديث معي. غادرنا جميعا المقهى بعد أن حملت معي رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة التي من الصدف أنها تروي «يوميات شاب ألقي عليه القبض لدى وصوله إلى مطار بلده عائدا إليه من فرنسا، وأمضى اثنتي عشرة سنة في السجن دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه» كما جاء في ظهر الكتاب. لم يكن هذا الوطن سوى «سوريا الأسد» أما التهمة فهي الانتماء إلى جماعة «الإخوان المسلمين» مع أن الرجل مسيحي !!!!
المشهد الثاني: على مائدة العشاء في أحد مطاعم عمـّــان الجميلة:
تحدث صاحبنا بحرقة عن ولديه الشابين وقد تجاوزا العشرين الآن. كلاهما تعلما في مدرسة واحدة لم تتأخر كثيرا في نحت شخصيتيهما بشكل تصاعدي مقلق… بدآ أولا في محاصرة والدتهما حول ضرورة ارتداء الحجاب ولم يتركاها وشأنها إلا بعد أن فعلت، ثم بدآ في إظهار تذمرهما من زيارات جيرانهم المسيحيين إليهم لأنهم «كفار»، ولما استمرت هذه الزيارات رغم أنفهما لم يعودا يغادران غرفتيهما للسلام عليهم وأحيانا فضلا ترك البيت قبل وصولهم. شيء واحد فقط لم يفعلاه إلى حد الآن ربما هو «إقامة الحد» على والدهما لأنه ضابط أمن سابق ومن «الطواغيت» وقد يكون خروجه إلى التقاعد هو من شفع له !!
حمّــل الرجل مسؤولية ما حل بولديه لمدرسة لم يكن همّـها النهوض بهما علميا بقدر ما عملت على تحويلهما إلى متشددين لا يريان الحق المطلق إلا في ما يعتقدانه، أو بشكل أدق في ما لقـّــن لهما. بدا صاحبنا مستسلما لمآل الولدين فقد شبـّـا عن الطوق الآن ولا يريد الدخول معهما في مواجهة قد تؤدي إلى خسرانهما تماما.. داعيا لهما بالهداية الحقيقية.
المشهد الثالث: نقاش بين مجموعة من الصحافيين والموظفين من جنسيات عربية مختلفة جمعتهم مناسبة ثقافية معينة أثاره قرار السلطات السويسرية تعليق إجراءات تجنيس عائلة سورية لاجئة لرفض ابنيها اليافعين مصافحة أستاذتهما لاعتبارات دينية حيث اعتبرت ذلك مؤشر تطرف لا يستقيم معه منح الجنسية السويسرية لهما. انبرت سيدة محجبة من هذه المجموعة لتقول: طبعا المصافحة بين الرجل والمرأة حرام.
ـ ومن قال لك إنه هو حرام؟؟!!
ـ هذا ما علمونا إياه!!
ـ وهل كل ما علمونا إياه صحيح !!؟؟
هنا تدخل سعودي ملتح ومن العاملين في المجال الدعوي ليقول: لا شيء في ديننا يقول إن المصافحة بين الرجل والمرأة حرام… وكان كلامه مفاجأة لأن الجميع كان يتوقع أن يدعم رأي هذه السيدة التي كان لافتا أن هذه المناسبة التي جمعتها بالآخرين لأيام قليلة لم تنته إلا وقد أصبحت تصافح زملاءها الآخرين.
هذه المشاهد التي جرت في الأردن يمكن أن تجري في أي بلد عربي آخر والعبرة منها أن هناك داخل مجتمعاتنا العربية أشياء مخيفة تتفاعل بتصاعد، بين عدم الشعور بأي إشكال أخلاقي في الوقوف مع قاتل لشعبه ومدمر لبلده، وصولا لتنامي التطرف الديني في أوساط اجتماعية مختلفة. المفارقة أن كليهما يتغذى وينتعش من الآخر: الدكتاتوريات الدموية تبرر إجرامها بالتطرف الذي تواجهه، أو استدعته عن قصد، وهذا الأخير يبرر غلوه ووحشيته بالدكتاتوريات… مع أن كليهما وجهان لعملة واحدة. الله المستعان!!
٭ كاتب وإعلامي تونسي