«قرأت معظم ما كتب عني بعد إعدامي على يد الاحتلال وزبانيته. كان لديّ من الوقت ما يكفي. لم يحدث أن التقت السكاكين والأقلام كما التقت على جثتي. لم تفاجئني العداوات القديمة. جرحتني رائحة الخيانات. حتى الذين اخترعتهم وارتكبتهم غسلوا أيديهم مني وأنكروا انحناءاتهم وجمر مباخرهم».
يحدق في البعيد ويضيف: «تقضي الشجاعة أن أعترف بأن بعض ما كتب كان صحيحاً. نعم كنت قاسياً. وكنت فظاً. وعاقبت بلا رحمة من التمعت الشكوك في عينيه. ومن توهمت أنه يخفي سؤالاً في عقله أو وراء ستائر منزله. لقد قتلت كثيراً وطويلاً. لم أرحم الأكراد. ولا الشيعة. ولا السنّة. كانت الحرب مع إيران باهظة ومريرة. ذهبت إليهم كي لا أقاتلهم لاحقاً في شوارع بغداد. كي لا يشكل قاسم سليماني حكومة العراق ويجول في عاصمة الرشيد ويرقص مزهواً في الأنبار».
ويقول: «حاربت الأكراد لأنني أعرف أن مطلبهم الحقيقي هو القفز من الخريطة. وقصفت حلبجة لأن عناصر الحرس الثوري الإيراني دخلوها مع جماعة جلال طالباني. لم أتساهل أبداً مع الذين كانوا يقتاتون على موائد الخميني. ولا مع الذين كانوا يكبرون في ظل مكائد حافظ الأسد وأجهزته».
ويتابع: «لا أنكر أن الغفلة أخذتني. وأن الجيش الجرار أسكرني. وحلمت بتحويل العراق دولة كبرى في الإقليم. وقلت إن أميركا تحب الرقص مع الأقوياء. عاد الجيش من الكويت حطاماً ولم يعد لديه إلا ما يكفي لسحق انتفاضتَي الشيعة والأكراد. ثم جاء الغزو الظالم وكان ما كان».
يقترب من النافذة ويقول: «أنا لست عشبة غريبة. حكام العراق نهر من المستبدين. كانوا يعرفون هشاشته وجشع جيرانه. ويعتقدون بأن القسوة وحدها تلحم أجزاءه. كل هذه التواريخ صارت في عهدة التاريخ. أعدموني ورقصوا فوق جثتي. نعم. كنت قاتلاً وفظاً ومستبداً. وصورتني التصريحات والمقالات بأنني المشكلة الوحيدة. وأن السلام يولد من جثتي. لكن من حقي أن اتساءل لماذا يستمر العراق في الانحدار والتفكك والتلاشي على رغم مرور كل هذه السنوات على غياب من سميتموه المستبد؟ أكاد أعجز عن إحصاء جنسيات المسلحين الذين ينتهكون سيادة العراق. وعن إحصاء جنسيات الطائرات التي تتنزه في أجوائه. اذا كنت أنا المشكلة فلماذا يواصل العراق العظيم انحداره وانتحاره؟».
في الجناح الآخر في الفندق البعيد «قائد تاريخي» آخر. يلف جثته بالأوسمة ويحدق في المرآة. يسترجع زيه الأفريقي ويتذكر لعبة «ملك الملوك». يتمشى بتوتر ظاهر ويقول: «لم يعد سراً أنني قُتلت على يد أبنائي. أبناء شعبي الذي يحبني. أنا لا تنقصني الشجاعة. كنت قاسياً وكنت فظاً. لم أرحم أحداً. لا رفاقي في الثورة ولا «الكلاب الضالة». قتلتهم على أرض الجماهيرية العظمى وقتلتهم تحت كل سماء. كانت قدرتي عظيمة ويدي طويلة».
ويضيف: «أشعلت النار في رداء الإمبريالية الأميركية. واجهتهم في كل الملاعب. استضفت أعداءهم ولم أبخل عليهم بالمال والمتفجرات. خطفت وزراء «أوبك». وأطلقت «أبو نضال» يوزع الرعب على العواصم. استقطبت إرهابيين من قارات مختلفة. استضفت كبار المرتكبين وحركتهم كالدمى. أنا لا أنكر اليوم ما فعلت. من إخفاء الإمام موسى الصدر الى تفجير لوكربي. كانت الحرب مفتوحة ولم يكن أمامي غير أن أحارب».
ويتابع: «قرأت ما كتبوه عني بعد مقتلي. تابعت ايضاً ذكريات من كانوا يعيشون تحت خيمتي أو على أطرافها. تحدثوا عن الديكتاتور والمستبد والرجل المريض. عن القائد الذي يلتهم البلاد والعباد. وعن اغتيالات واغتصابات. والحقيقة أنني كنت شرهاً ومستبيحاً. لكنني أسأل اليوم عن بلاد جعلتها على كل شفة ولسان. أذا كنت أنا المشكلة الكبرى والوحيدة لماذا تواصل ليبيا رحلة الانحدار والانتحار؟ أنا كنت أعرفها وأدرك هشاشتها. وكنت أعرف أن القسوة وحدها يمكن أن تلحم أجزاءها».
لنترك صدام حسين في الفندق البعيد. فندق التاريخ. ولنترك معمر القذافي مكتئباً في جناحه. لا شيء يعفيهما من الجرائم الشاسعة والتخريب الهائل. لا شك في أن ما ارتكباه صحّر البلدين. لكن لماذا تلحق البلاد بالمستبد اذا ذهب؟ ولماذا تختار شعوبنا الانتحار بعد نحره؟ هل كان المستبد المشكلة الوحيدة أم أننا أسرى مشكلة أعمق وأبعد؟ هل نقيم في كهوف التاريخ ونعجز عن مواجهة امتحانات الضوء؟ هل نحن عبيد التاريخ وعبيد أجدادنا وأجدادهم وخناجرهم وقيودهم؟
كنت أقلب صفحات من التاريخ مع رجل عرف البلدين والمستبدين. انتابني شعور بأن عنصر الانحطاط سيطول. وأننا لم ننسف بعد تلك الجسور السرية المعتمة التي تربطنا بالظلم والظلام. وأن ثقافتنا قادرة على إنجاب أجيال جديدة من المستبدين وإنْ اختلفت الشعارات والأزياء. يستحيل الخروج من هذا الانحطاط الشاسع من دون الاغتسال جدياً من الأفكار الوافدة من مستنقعات التاريخ. الأفكار التي تحتقر كرامة الإنسان وحقه في الحرية والتقدم.