زيارة السيد أوباما المقبلة للملكة هي الزيارة الثانية وعلى الأرجح الأخيرة بصفته رئيس الولايات المتحدة. وتأتي هذه الزيارة في الوقت الذي بلغ فيه اختلاف وجهات النظر بين الرياض وواشنطن ذروته، وتضاربت الأهداف الاستراتيجية بين «عقيدة أوباما» والعقيدة السعودية الجديدة لعهد الملك سلمان على أكثر من جبهة، فازدادت الفجوة بين الحليفتين على أكثر من ملف. كما أن إطار هذه الزيارة – وبلا شك توقيتها – يحتّم على القيادتين الخوض في كل هذه الملفات المتضاربة والمواقف المتباينة، وذلك حيال مواضيع عدة عاجلة، منها الحروب الأهلية في ليبيا وسورية، وتوسّع نفوذ «القاعدة» و«داعش» وأتباعهما، والصراع العربي الإسرائيلي، والمشروع الفارسي والإرهاب المصدّر من إيران، المتمثل في انتشار الميليشيات الشيعية في المنطقة وغيرها من الملفات الحصرية.
هذا وعلى رغم أننا على صفحات متباينة حول معظم هذه القضايا، إلا أن بعض المصالح المحورية ما زالت تجمعنا، وبلا شك سنرى استمرارها عبر علاقات مؤسساتية متمثلة بجهود متحدة لمكافحة الإرهاب، وتعاون ثنائي متين في مجالات الاقتصاد، والطاقة، والتعليم، والصحة، وغيرها. أما ملف اليمن فلنكتفِ بالقول إن المملكة والولايات المتحدة هما في اتفاق على أقل وصف حول الحرب التي تقودها السعودية ضد تمرد الحوثي وصالح في اليمن.
عندما تهبط طائرة أوباما في الرياض هذه المرة فإنها ستهبط لتلتقي بقيادة سعودية تختلف بعض الشيء عن زيارة الرئيس السابقة. اليوم المملكة خطت بخطوات حازمة لتستقل بسياستها وقراراتها، ولتبسط نفوذها للحفاظ على مكتسباتها ومصالح حلفائها. وأخذت المملكة بزمام الأمور لتلبي النداء وتقود العالمين العربي والإسلامي عبر التغييرات الجيوسياسية العاتية التي تشهدها المنطقة والعالم في العقد الأخير.
وهناك سببان رئيسان لهذا «الحزم» الجديد، وهما يشكلان صميم عقيدة الملك سلمان، أولاً: ما أتى به ما يسمى بالربيع العربي من اضطرابات عصفت بالعالم العربي من حروب دامية وقلاقل وتهديدات إرهابية، اضطرت أمامها السعودية إلى لم شمل حلفائها ومواجهة هذه التحديات – غالباً من دون رضا أو حتى مشاورة الولايات المتحدة والغرب -، كل ذلك في سبيل الحفاظ على الأمن الدولي والإقليمي. ثانياً: صحيح أن السعودية قبلت بالاتفاق النووي كواقع حال الظرف والزمان، إلا أن الطريقة المتحايلة التي وصلت فيها الأطراف إلى الاتفاق ما زالت حاضرة في الذهن السعودي، وأخشى أنه موقف لن يُنسى. ليس فقط لأن خُطِط لها بسرية وخلف الكواليس ومن دون علم حلفاء أميركا في المنطقة، والمعنيين أصحاب الشأن، بل بسبب موقف أوباما حينها من سورية – والذي سيخلّده التاريخ بخذلانه للشعب السوري بالسماح ببقاء الأسد ليسفك دماء أكثر من ٢٥٠ ألفاً وليشرد الملايين من الأبرياء -، خوفاً من رد فعل من طهران ربما يفسد المحادثات أو يخدش إرث أوباما واتفاقه النووي المقدس.
جاء الرد السعودي بفرض المملكة استقلالها الاستراتيجي الجديد، فأقرت السعودية بإنفاق نحو 150 بليون دولار لإنشاء بنية تحتية تعزز مقومات المملكة الدفاعية، ثم شرعت في بناء وقيادة تحالف عربي إسلامي يضم 34 دولة تحارب بجنب المملكة ضد الإرهاب. هذا والمملكة تخطط لفتح قواعد عسكرية سعودية عدة في مناطق استراتيجية، أولاها القاعدة العسكرية في جيبوتي. إضافة إلى تغيير جذري في سياسات المملكة إلى دور فعّال أكثر وقيادي في ملفاتها الخارجية والعسكرية، تبعتها خطوات جبارة خطتها المملكة بكل حزم على أرض الواقع.
فالحرب في اليمن أول أشواط هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة. قبل أكثر من سنة استنجد اليمن بالمملكة وسط فوضى عارمة اغتصب فيها الحوثي وصالح الحكم، وأشعلا البلد في حرب أهلية بدعم من طهران. قبل أكثر من سنة كادت هذه الميليشيات أن تسيطر على اليمن وعلى منافذ استراتيجية، وباتت تشكل «اللاشرعية» في اليمن خطراً مباشراً على أمن المملكة وحدودها.
واليوم وبعد أن تم دحض نفوذ المتمردين في عدن وتعز، وتقليص قدراتهم من السلاح الثقيل ومحاصرتهم في صنعاء، وقبلت الأطراف اليمنية بمبادرة الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، تبشّر المحادثات بقرب عودة الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس اليمنى عبدربه منصور هادي إلى العاصمة. إنها بلا شك لمؤشرات تلوح بنهاية النفوذ الإيراني في شبه الجزيرة العربية (هذا وقد فشلت محاولة طهران لقلب نظام الحكم في البحرين عام 2011). هذا الإنجاز في اليمن بقيادة سعودية هو تبلور ملموس على قدرة عقيدة الملك سلمان على تغيير الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط.
ثانيها الملف اللبناني وما صدر من الرياض في شأنها من إجراءات لخنق نفوذ حزب الله السافر في لبنان، والتي أصبحت مركزية على الساحة الاجتماعية والسياسية والعسكرية. ففي آذار (مارس) عندما قررت المملكة وقف الدعم العسكري البالغ أربعة بلايين دولار للبنان، وحثت رعاياها على اجتناب زيارة لبنان، وصنّفت حزب الله في قائمة الإرهاب؛ كانت كلها خطوات صارمة وفق خيارات صعبة ولازمة مع الشقيقة لبنان، إلا أنها لدليل على مدى تمسك السعودية في اتخاذها هذا النهج الجديد، وإصرارها على عدم التهاون في التصدي لمن يهدد المنطقة من شرذمة ميليشيات ترعاها وتدعمها إيران مثل حزب الله في الكويت والقطيف والبحرين، والحشد الشعبي في سورية والعراق، والحوثي في اليمن، وفرق عسكرية معينة في غزة تتبع الجناح العسكري لـ«حماس».
أما الشوط الثالث لهذه الرؤية فتجسّد في زيارة الملك سلمان لمصر قبل أسبوع، وما تمثله مثل هذه الزيارة من عمق استراتيجي بين أكبر قوتين في العالم العربي.
وما كان الإعلان عن استعادة السعودية رسمياً جزيرتي تيران وصنافير إلا تأكيداً على ذلك، ولاسيما العمق السياسي والاقتصادي والعسكري مع القاهرة. فتوقيع أكثر من ٢٠ اتفاقاً ثنائياً مع مصر، أهمها جسر بري طال انتظاره، سيضمن تعاوناً عسكرياً أكبر بين البلدين، مما يسمح بسهولة نقل جنود ومدرعات ودبابات عبر الحدود الشمالية ضمن خطة مستقبلية لدعم الألوية الجديدة في الجيش السعودي، والتي تشكل نواة القوة العسكرية للتحالف الإسلامي بقيادة المملكة. شدني أخيراً كلام محلل سعودي، إذ قال: «أوباما أشعل الثورات العربية من جامعة القاهرة.. ومن جامعة القاهرة اليوم يطفئها الملك سلمان». نعم أشعلت إدارة باراك أوباما بكل «خبرائها لشؤون الشرق الأوسط» نيران الثورات في العالم العربي، جاهلين مدى خطورة زعزعة أمن واستقرار هذه الدول، وكيف ستستغل ضعف مؤسسات هذه الدول المتعثرة جماعات متطرفة ومسلحة تسعى للسلطة عبر الترهيب والترعيب. سارعت المملكة وحلفاؤها إلى إخماد الحرائق في العواصم العربية، وسعت إلى إعادة الأمل والاستقرار فيها. والآن الخطوة التالية هي للسيد أوباما، فهل سيستغل الرئيس زيارته الأخيرة للتكفير عن هفوات سياسته الخارجية مع السعودية والعرب؟ لعله بدأ يدرك ثمن عدم إعادة المياه إلى مجراها الطبيعي بين بلاده والقوة الجديدة الصاعدة في المنطقة.