يصف المؤرخ البريطاني المعروف باتريك سيل، رئيس وزراء الأردن عبدالحميد شرف (في كتابه غير المشهور، مع كتّاب آخرين، عن شرف، بعد قرابة ثلاثة أعوام من وفاته في العام 1980)، بأنّه رئيس وزراء راديكالي.
الكتاب المذكور (لم يُترجم إلى العربية) لم يكن عن سيرة حياة عبدالحميد شرف، بل عن الأردن ومنطقة الشرق الأوسط، وشارك فيه مؤلفون آخرون. إلاّ أنّ الفصل الأول التمهيدي كتبه سيل نفسه عن حياة عبدالحميد شرف، والمراحل التي مرّ فيها روحياً وسياسياً، وصولاً إلى لحظة وفاته وهو ما يزال رئيساً للوزراء.
موقع رئيس الوزراء كان نهاية تجربة غنية مرّ بها شرف. ولا يقصد باتريك سيل بمصطلح “راديكالي” الإشارة إلى تأثر عبدالحميد شرف السابق بحركة القوميين الأحرار، حينما كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت؛ بل يقصد، وهنا بيت القصيد، ما حمله شرف من أفكار إصلاحية جوهرية عندما كان رئيساً للوزراء، في محاولة منه لتطوير الدولة والاقتصاد والمجتمع، والحالة السياسية في البلاد.
يلخّص سيل مشروع شرف في ثلاثة أبعاد رئيسة؛
الأول، هو ما أطلق عليه الدمقرطة، ومحاولة تطوير بنية مؤسسات الدولة السياسية والبيروقراطية لتكون قادرة على حمل المشروع الديمقراطي لاحقاً. ويشير سيل إلى أنّ شرف هو من اقترح على الملك، حينما كان رئيساً للديوان الملكي، خلال حكومة مضر بدران وقبل أن يصبح شرف رئيساً للوزراء، تشكيل المجلس الاستشاري، بديلاً مؤقتاً عن غياب الحياة النيابية التمثيلية. وسعى شرف وبدران معاً إلى أن يكون المجلس مستقلاً عن الحكومة، وإلى تطوير المؤسسات الإعلامية ومنحها قدراً كبيراً من الحرية.
الثاني، هو المشروع الثقافي. إذ كان شرف يعتقد أنّ هزيمتنا أمام إسرائيل في العام 1967 لا تقف وراءها عوامل عسكرية فقط، بل ثقافية أيضاً؛ لعجزنا عن فهم ثقافة العالم المعاصر، وعدم القدرة على تطوير المجتمع ليكون معاصراً حديثاً متقدما. لذلك حرص على العناية بالجانب الثقافي، وتمكين المرأة، وركّز على إصلاح التعليم وتطويره بصورة كبيرة.
الثالث، هو المشروع الاقتصادي، الذي يعنى بنوعية الحياة، وعنوانه الرئيس ضرورة “ترشيد الاستهلاك” من قبل الدولة والمواطنين، وهو ما حاول إقناع الجميع به. وكذلك تطوير دور القطاع الخاص في حمل جزء من مسؤولية القطاع العام.
يمرّ باتريك سيل (فيما كتبه في ذلك الفصل) على معالم خاطفة من مرحلتي وصفي التل وعبدالحميد شرف، والفرق بين شخصيتيهما، وأولوياتهما. ومن المعروف أنّ شرف جاء وزيراً للمعلومات والثقافة، للمرة الأولى، في حكومة وصفي التل في منتصف الستينيات، وعمل مع الأخير في أكثر من موقع، وكانت بينهما علاقة صداقة عميقة، ويمثّلان جيلاً إصلاحياً طامحاً للتغيير والتطوير في دوائر القرار الصلبة.
عبدالحميد شرف رئيس الوزراء الراديكالي، المؤمن بأهمية الإصلاح وضرورته، كان له حلم كبير للأردن، وكذلك حال وصفي التل ومضر بدران، وبعدهم أحمد عبيدات، وقبلهم هزّاع المجالي، وغيرهم رؤساء وزراء ومسؤولون آخرون عملوا معاً على التطوير والإنجاز، وكان لكل واحد فيهم مشروع وعنوان وحلم.
فهل ما يزال لدينا مسؤولون يحلمون؟! لهم آراء راديكالية في الإصلاح والتغيير؛ ليس مجرد كلام أو وصفات جاهزة، بل مشاريع يؤمنون بها، ويدافعون عنها، ويقاتلون من أجل تحقيقها ويصرّون عليها، وهي لديهم أكبر من مكسب شخصي أو عائلي أو مجرد التمسّك بالسلطة، أم أنّ هذا النوع من المسؤولين الحقيقيين اندثر!