قبل أسابيع من زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز للقاهرة، تصدت مقالات عدة نشرت في صحف عربية مختلفة لمناقشة حجم التغيير الذي طرأ على السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في الفترة الأخيرة، بخاصة بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم. ورغم التباين الواضح بين التوجهات السياسية والفكرية لكتّاب هذه المقالات، إلا أن مضمونها عكس ما يشبه الإجماع على مسألتين أساسيتين: المسألة الأولى، أن تغيراً كبيراً طرأ بالفعل على السياسة الخارجية السعودية في الآونة الأخيرة. فلم تعد المملكة تكتفي بممارسة «سياسة رد الفعل» أو محاولة «القيادة من الخلف» أو تجنب الانخراط المباشر في أزمات بعينها أو تقليص الأضرار المحتملة التي قد تنجم عنها، وإنما بدأت تمسك بزمام المبادرة والفعل في أمور كثيرة، خصوصاً تلك التي تمس أمنها الوطني. وبالتالي لم تعد تتردد في تصدر الصفوف والاعتماد على الذات وبناء وقيادة تحالفات دولية وإقليمية إذا لزم الأمر. وجاء قرار المملكة بالتدخل العسكري في اليمن إلى جانب السلطة الشرعية كاشفاً عن حجم ونوعية التغيير الذي طرأ على السياسة الخارجية السعودية، مقارنة بالأسلوب التقليدي الذي اتسم به تعاملها مع الأزمات الدولية والإقليمية طوال عقود.
المسألة الثانية: أن السعودية تدخل الآن مرحلة جديدة من تاريخها وأصبحت بحكم ما تملكه من موارد وما تظهره من إرادة وحزم وتصميم أكثر قدرة على قيادة النظام الإقليمي العربي، في مواجهة تحديات كثيرة تواجهه وتستهدف اختراقه وتفتيته من داخله. وبالتالي أصبحت مؤهلة لملء الفراغ الذي كان قد تركه انسحاب مصر من دورها القيادي، بصرف النظر عما إذا كان هذا الانسحاب قد تم لأسباب ذاتية تتعلق باختلاف أهواء وقدرات الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر في مرحلة ما بعد عبدالناصر، أم لأسباب موضوعية تتعلق بانشغال مصر بهمومها وقضاياها الداخلية المتزايدة وفقدانها جانباً من العوامل والموارد والمقومات التي تمكنها من ممارسة دورها القيادي التقليدي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الكتابات المشار إليها آنفاً خلصت إلى نتيجة مفادها أنه يتحتم على مصر الآن الاعتراف بحقائق وموازين القوى الجديدة في المنطقة العربية وإفساح الطريق أمام السعودية للتقدم نحو قيادة النظام العربي. وهو ما يعيد تذكيرنا بإحدى السمات المأسوية لنظام إقليمي عربي انشغلت بعض قياداته على مدى عقود طويلة بالتنافس على كرسي الزعامة أكثر من انشغالها بترسيخ دعائم النظام نفسه واستكمال صياغة قواعده وبناء مؤسساته، ما أدى إلى تصدع أعمدته وبداية انهياره قبل أن يكتمل بنيانه.
من المسلَّم به أن مصر الناصرية قادت النظام العربي من دون منافسة حقيقية، من خلال دعمها حركات التحرر الوطني ودفاعها المستميت عن عدالة القضية الفلسطينية وعن حق الشعوب العربية في الاستقلال الوطني والوحدة. غير أن رحيل عبدالناصر وتبني السادات ثم مبارك سياسات ترفع شعار «مصر أولاً» وتهادن إسرائيل والولايات المتحدة تركا فراغاً أغرى قيادات عديدة كانت لا تزال ترفع شعارات العروبة والوحدة، من أمثال معمر القذافي وصدام حسين وغيرهم بالتقدم لملئه. ولأن أياً من هذه القيادات أو الدول التي حكموها لم تكن تمتلك من المقومات الذاتية أو الموضوعية ما يكفي لتمكينها عملياً من ملء الفراغ الذي تركته مصر الناصرية، فقد دخل النظام الإقليمي العربي بعد رحيل عبدالناصر مرحلة ممتدة من الفوضى والارتباك لا تزال مستمرة حتى الآن وتهدد سلامة وتماسك الدول العربية كافة. وتلك حقيقة يصعب إدراك عمق دلالاتها ما لم يتم عقد مقارنة موضوعية بين حالة النظام الإقليمي العربي لحظة رحيل عبدالناصر وحالته سواء لحظة رحيل قيادات عروبية أخرى من أمثال صدام حسين أو معمر القذافي أو في اللحظة الراهنة.
فرغم الهزيمة المرة التي لحقت بعبد الناصر على يد إسرائيل عام 1967، إلا أن الشعوب العربية كلها بكته عند رحيله في 28 أيلول (سبتمبر) 1970 وظل النظام الإقليمي العربي صامداً ومتماسكاً بقوة دفع السياسات التي رسخها إلى أن تمكن من تحقيق إنجاز أكتوبر عام 1973. وتلك صورة تتناقض تماما مع صورة النظام الإقليمي العربي لحظة رحيل صدام حسين. على سبيل المثال، والذي نفذ فيه حكم الإعدام شنقاً يوم 30 أيلول 2006 بعد أن دمرت بلاده واحتلت من جانب الولايات المتحدة، أو صورة النظام العربي لحظة رحيل معمر القذافي، والذي تم اغتياله في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 تحت وقع القصف المكثف لقوات حلف الأطلسي بمشاركة قوات عربية، أو مع الصورة التي تعكسها الأوضاع الراهنة في سورية واليمن وغيرها من الدول العربية التي تعصف بها الحروب الأهلية وتمزقها الفتن الطائفية. اليوم، تأتي زيارة خادم الحرمين الشريفين لمصر على خلفية تلك الصورة القاتمة لنظام إقليمي عربي لم يعد له وجود، بعد أن تحول إلى أطلال تستدر البكاء. وبالتالي بات كل حديث عن التنافس بين الرياض والقاهرة لزعامة هذا النظام في أحسن الفروض مجرد لغو لا يستحق الالتفات، وفي أسوئها امتداداً للمحاولات المستمرة التي تستهدف إدخال الدول العربية في متاهات وصراعات لا نهاية لها. لذا يبدو أن معيار نجاح أو فشل هذه الزيارة يجب أن يقاس بمدى نجاحها أو فشلها في بلورة رؤية مشتركة حول سبل وقف تدهور العالم العربي تمهيداً لإعادة بناء نظامه الإقليمي على أسس جديدة تعيد لشعوبه الأمل في مستقبل أفضل.
اعتقد أن الوقت ما زال مبكراً للحكم على نتائج تلك الزيارة المهمة، ومع ذلك فقد تخللتها مشاهد عديدة توحي بأن العلاقة بين مصر والسعودية بدأت تدار بعقلية استراتيجية، وبأن شيئاً جديداً ربما يكون على وشك أن يولد في لحظة تتغلب فيها مشاعر اليأس والإحباط على مشاعر الأمل والتفاؤل. من بين المشاهد التي لفتت نظري في تلك الزيارة، حرص الملك سلمان على أن يتولى بنفسه الإعلان عن اتفاق تم التوصل إليه لإقامة جسر بري بين البلدين. ورد الرئيس السيسي باقتراح تسميته «جسر الملك سلمان». ولأن موضوع الجسر يحظى بأهمية استراتيجية تتجاوز أبعاد العلاقات الثنائية بين البلدين، أتوقع أن تبدأ إسرائيل بدس أنفها وعدم السماح ببنائه قبل أن تتمكن من تلبية شروطها الخاصة تحت ستار المتطلبات الأمنية. كذلك حرص خادم الحرمين الشريفين على لقاء البابا تواضروس بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية وإجراء محادثات رسمية معه، وعلى زيارة مشيخة الأزهر ولقاء الإمام الأكبر، وكلها أمور تحدث للمرة الأولى ولا سوابق لها في أي زيارة مماثلة لأي عاهل سعودي من قبل. ويوحي هذا النوع من النشاط بأن القيادة السياسية في البلدين لديها النية بالفعل للقيام بإصلاحات دينية باتت ضرورية لتحصين المجتمعات العربية والإسلامية في مواجهة الإرهاب.
إن الحرص على توفير أجواء من الشفافية والمصارحة تسمح بنقاش موضوعي حر حول تلك القضايا الحساسة مدعماً ببيانات ومعلومات صحيحة ومدققة يمكن أن يشكل أساساً صالحاً لتحرك واثق نحو بناء علاقة استراتيجية بين البلدين تساعد على انتشال النظام الإقليمي العربي مما هو فيه.