انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أسبوع، مقطع فيديو يظهر فيه أطفال في ساحة إحدى مدارس غزة، وهم يذرفون الدموع أمام أقرانهم الصغار، بعد أن قامت شرطة الفضيلة باستتابة هؤلاء الأولاد الذين لا يتجاوز بعضهم سن العشر سنوات. كما قامت محطات تلفزيونية غربية ببث هذا المقطع المثير، إما لغاية التهويل والتشهير، أو ربما بهدف الاستعداء والتحريض.
قبل أن أشرع في كتابة هذه الكلمات، تحت تأثير الصدمة والاستهجان، بحثت عن معنى الاستتابة في قاموس المعاني، فوجدت أنه مصطلح فقهي يتعلق بعودة المرتد والزنديق عن ضلاله إلى جادة الصواب، وهو ما ضاعف من حدة الصدمة بهذا المشهد، الذي يستبطن دلالات تربوية وقيمية جارية بالإكراه في قطاع غزة.
ولا أحسب أن هذا المشهد المروع مجرد تفصيل من تفاصيل الحياة اليومية في القطاع المحاصر من الداخل والخارج معا، يمكن التغاضي عنه في زحمة الأحداث الساخنة في الجوار، واعتباره شأنا لا يخص غير المبتلين به داخل السجن المقام في الهواء الطلق، لا سيما أن الأمر يتعلق بمنهج تربوي يتدثر بالدين، يدعو القائمون عليه الى التمثل به في بلاد العرب والمسلمين.
نحن لا نتحدث عن واقعة شاذة ومعزولة، بل عن مسار مديد من الوقائع المماثلة، تكررت نحو60 مرة، وشملت عددا من المدارس المدارة من جانب وزارة “التوبة” والتعليم الحمساوية، وفق التسمية التهكمية الدارجة مؤخرا في القطاع، الذي تسوده مظاهر لا حصر لها من التعسف السياسي، والاستبداد الاجتماعي، خصوصا ضد النساء، مما يجعل من الاستتابة هذه حلقة أخرى في سلسلة طويلة من الانتهاكات.
ليس السؤال عما اقترفه أولئك الأولاد حتى تتم استتابتهم قبل أن يصلوا إلى سن الحلم، ولا عن النوايا المضمرة وراء هذا النهج الجاري تعميمه في مدارس، آخر ما يعوزها تخويف الطفولة من عذاب القبر، وإنما السؤال هو عن عقابيل إشاعة الغلو والتشدد، وزرع بذور التطرف المفضي إلى آفة الإرهاب، في وقت تتعاظم فيه الحاجة إلى تنقية الخطاب الديني، وإشاعة التسامح والوسطية والاعتدال.
إذ لو كان الأمر متعلقا بفلسفة تربوية، في مجتمع لا تحكمه سلطة تتذرع بالدين، لتبرير خطابها العقائدي، وتسويغ رؤيتها الظلامية، لما اقتضى الأمر هذه الوقفة النقدية، ولجرى تجاوز المسألة من الألف إلى الياء، إلا أنه عندما تتم دعوة الأمة إلى الاقتداء بهذا النموذج البائس، يصبح الأمر محلا للتساؤل الاستنكاري، وموضعا للمحاكمة والانتقاد.
نحن في واقع الحال أمام تجربة سلطة أمر واقع مأزومة، تواصل منذ نحو عقد سياسة تخبط وارتجال على كل صعيد، وتجلب لنفسها العزلة، وللآخرين الإفقار واليأس والدمار، تكابر في المحسوس، وتحصد الفشل تكرارا في الاختبار، غير أنها تواصل من القطاع المدمر، إنكار حقيقة أنها صنعت نكبة في قلب النكبة، إلى حد باتت فيه حياة الغزيين، بحسب أحدهم، أشبه بـ “قملة بين ظفرين”.
كان من الممكن غض البصر، بصعوبة، عن الفصل بين الجنسين بعد الصف الثالث الابتدائي، ومنع النساء من التعليم في مدارس الذكور، بل ومنعهن من تدخين الأرجيلة في المقاهي، أما أن يتم فتح المدارس للغلاة ولمثل هذه الهرطقات، لتتويب أطفال عن معصيات لم يرتكبوها أصلا، فتلك استباحة للبراءة ينبغي إدانتها، إن لم نقل إنها اختطاف جماعي لجيل كامل، يجب التحذير من مغبة تلقينه دروس التعصب، ودفعه على دروب الإرهاب.
ولعل اسوأ ما تبثه هذه المشاهد الطالعة من كهوف قندهار وغياهب وزيرستان، أن المدارس التي لم يتورع الاحتلال عن قصفها في الحروب السابقة، تحت ذرائع واهية، سوف تكون، والحالة هذه، هدفا أسهل من ذي قبل، في أول عدوان جديد قد يحدث في أي وقت، بزعم أن هذه المدارس مجرد حواضن يجري فيها تفريخ أفواج من الإرهابيين، هؤلاء المبرر قتلهم بلا سؤال أو جواب.
ولعل ثاني رسائل مشاهد الاستتابة، وأشدها إيجازا، أن هذا النهج المتمادي في التسلط على كل مناحي الحياة، بما في ذلك حياة الأطفال والنساء، يوصد الباب أمام كل إرادة حسنة لإنهاء الانقسام الذي تعززه مثل هذه المظاهر المتراكمة في الوعي والمدارس والسجالات والشوارع والمقاهي، وغيرها من دروب مشابهة.