بتنا معتادين قراءة خبر مفاده توفر فرص عمل للأردنيين في دول الخليج العربية، بما يشمل تخصصات الهندسة والطب والتعليم والتمريض، وغيرها من المهن.
ولهكذا خبر أكثر من وجه. الأول حسن جميل، إذ دلالته أن القوى البشرية الأردنية ما تزال مطلوبة للعمل في الخارج، بحكم سمعتها الطيبة؛ دقة أداء وحجم إنتاجية؛ وذلك على الرغم من النقد الذاتي الذي نمارسه بحق أنفسنا، بدعوى تراجع مؤهلات العمالة الوطنية، ولاسيما خريجو نظامنا التعليمي العالي على وجه الخصوص، وهو ما يأتي غالباً من باب الحرص على السمعة الأردنية الحسنة في هذا المجال.
أيضاً، يُبرز الوجه الآخر حقيقة العلاقات الوطيدة مع إخوتنا في الخليج، وبما يمثل بدوره نتيجة طبيعية للتحالفات السياسية الراسخة والمنتجة مع هذه الدول.
في المقابل، يظهر وجه قاس لاستمرار الطلب على العمالة الأردنية، يرتبط أساساً بالتفاعل المحلي مع ذلك، لناحية ضخامة عدد المستجيبين. وهو ما يفسره، ابتداء، ارتفاع معدلات البطالة محليا، ولاسيما بين الشباب الذين يضطرون نتيجة محدودية فرص العمل إلى ترك وطنهم، والتخلي بالتالي عن دورهم في بنائه، لحساب المساهمة في بناء دول أخرى، وإن كانت شقيقة.
أما التفسير الآخر فيبدو في تزايد شعور الغربة لدى الأردني داخل بلده، وإلى الحد الذي يدفعه للتفكير في السفر بحثا عن أمل بحياة أفضل في ظل تواضع معدلات الدخل محليا، وبالتالي ضآلة فرصة تأمين حياة كريمة هنا.
أخطر ما في ظاهرة سفر الأردنيين للعمل في الخارج هو أنها تعكس ضعف الاقتصاد المحلي، بحيث يعجز عن توسيع سوق العمل بما يكفي لاستيعاب آلاف الداخلين إليها سنويا. إذ يولّد هذا الاقتصاد حوالي 45 ألف فرصة عمل في العام، فيما الحاجة الحقيقية تزيد على 70 ألف فرصة.
طبعاً، ثمة مكاسب كثيرة متحققة من عمل الأردنيين في الخارج؛ أولها، خفض نسب البطالة محليا، كما اكتساب خبرات جديدة ربما لا يتحصل عليها المرء محليا. ولا يقل أهمية عن ذلك حجم الحوالات من العملات الصعبة، التي تدعم الاقتصاد الوطني، وتسهم في تأمين حياة لائقة لمئات آلاف الأسر الأردنية.
لكن ذلك لا يجعل من الصورة النهائية وردية بالكامل. إذ إن الكفاءات المهاجرة هي الأفضل على الأغلب، فيما يبقى الأقل تأهيلا أو قدرات في البلد. الأمر الذي يُضعف تركيبة سوق العمل المحلية، ويجعل إمكانات الابتكار والإنتاجية المفيدة تغادر مع أصحابها لتحط في مكان آخر. كما تساهم هذه الحالة في التقليل من فرص بناء اقتصاد بهوية مختلفة وجديدة، لأن كل التجديد وفرصه تسافر –مرة أخرى- مع أصحابها الأكفاء.
بالنتيجة، فإن عمل الأردنيين في الخارج ظاهرة إيجابية طالما أنها لا تتولد عن بيئة محلية طاردة أساساً. وهو ما يعني ضرورة تحسين بيئة العمل ومعالجة التشوهات التي تعتريها محلياً، بغية استيعاب الشباب الأردنيين الأكفاء، وبالتالي توفير الفرصة لهم ليساهموا في بناء وطنهم. وهو ما يبدو ممكنا من خلال مراجعة التشريعات الناظمة لسوق العمل، وتوسيع قاعدة الاقتصاد والعمل على إعادة هيكلته، ضمن أمور أخرى كثيرة طبعاً.
أما إبقاء المعادلة الحالية، فإنه يعني، حرفيا، مزيدا من بطالة الشباب، وبالتالي إحباطهم بانتظار أن يحالفهم الحظ بالسفر والهجرة. علماً أن كثيرا من شبابنا يتمنون العمل في وطنهم ولأجل وطنهم. والخشية أن تستيقظ الحكومات يوما وتجد شبابها كلهم مشروع مهاجرين أو مسافرين، يودعون بلدهم وأهلهم وكلهم حسرة على واقع صعب يبدو بالنسبة لهم قدراً دائماً لن يتغير.
هي مشكلة كبيرة تتفاقم. وما أزال أذكر ما قاله لي يوماً رجل أعمال ناجح ومؤثر، بأنه لا يعلّم أولاده لخدمة الأردن، بل للعمل في دولة خليجية ذكرها بالاسم. وهذا واقع الحال بالفعل؛ فأبناء الأثرياء اليوم يفضلون أن يبدأوا حياتهم العملية في بنك أو مؤسسة أجنبية عالمية مهمة، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فيما يفر أبناء الطبقة الوسطى من وطنهم أملا بفرصة أفضل. والنتيجة هي أن الكل يغادر… والأردن يخسر!