“وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرته عُهودُ الصبا فيها فحنّوا لذلكا”
(ابن الرومي)
يعكس قانونا الانتخاب اللامركزية اتجاها سياسيا لتكون المحافظات وحدات إدارية اجتماعية، ويتوافق ذلك أيضا مع اتجاهات اجتماعية صاعدة في وعي الهويات الفرعية المكانية والاجتماعية، فالمدن والبلدات والمحافظات والجماعات الاجتماعية والثقافية تنشط أكثر من السابق في تأكيد وعيها لذاتها والتجمع حول هذا الوعي، وتدور نقاشات وجدالات سياسية واجتماعية حول التوزيع المكاني والاجتماعي للفرص القيادية والوظيفية، أو إشارات الاعتزاز بالإنجازات التعليمية والاقتصادية، وتتشكل في شبكات التواصل الاجتماعي جماعات كثيرة حول الانتماءات المكانية والاجتماعية.
الأصل في الحياة والعمل، وهو أيضا ما تقاس به الفاعلية الحقيقية للمدن والأماكن، أن يكون في مقدور الشاب العمل في مكان نشأته وحيث تعيش عائلته، وأن يمنحه عمله أملا أو فرصة في الوفاء بتطلعاته في الحد الذي يقترب من وعيه تجاه ما يحب لنفسه وأسرته، وأن يكون الانتقال إلى عمان أو الخليج ليس اضطرارا ولكن بحثا عن أحلام أو فرص أفضل. وقد يكون من فائدة الهويات المكانية واللامركزية (ليست لامركزية في الواقع) المفترض البدء بتطبيقها في عام 2017 أن تدفع المجتمعات المحلية والمدن والبلدات في هذا الاتجاه، وبدون هذا الشرط (قدرة أبناء المدينة أو المحافظة على الحياة والعمل فيها) تمضي الهويات المكانية واللامركزية والانتخابات بالناس والإدارة العامة إلى الانفصال والفشل.
فعلى مدى التاريخ والجغرافيا تتشكل المدن والبلدات حول الموارد والأسواق، وتنشئ المجتمعات منظومة من العلاقات والمؤسسات التي تحمي هذه الموارد وتعظمها، ولا معنى ولا قيمة للتجمعات السكانية بلا أسواق وموارد مرتبطة بها، وبغير ذلك لن تفيد الانتخابات واللامركزية والجمعيات والنوادي والقصائد التي تمجد المدن والجبال، لأن اتجاهات العمل والموارد هي التي تغلب في النهاية وتحكم الانتماء والإقامة والتشكل الاجتماعي والسياسي، وقد يستطيع الجيل الانتقالي الذي عاش في مدينته ثم انتقل الى العمل خارجها الجمع بين الانتماءين والإقامتين، ولكن الجيل التالي لن يواصل هذه العلاقة العاطفية، فهي علاقة لا تورث، وقد اكتسبها الجيل السابق بفعل عوامل معيشية واقعية، التعليم والجيرة واللعب والعمل والعلاقات الاجتماعية والمشاركة وقصص الحياة اليومية، … ولا يمكن لمن لم يعش هذه التجارب أن يواصل أو ينشئ علاقة انتماء وشعور عاطفي عميق تجاه المكان.
لم تنشئ المناطق التنموية أسواقا وموارد وتشكلات اقتصادية اجتماعية لأبناء المحافظات كما لم تنشئ الموارد المتاحة والمشروعات الحكومية واتجاهات الانفاق العام والاستثمار أعمالا وفرصا اقتصادية تدفع الناس إلى المشاركة فيها، ثم وحول ذلك ينشئون إقامة سكنية ومدارس ومراكز صحية وأندية رياضية اجتماعية ثقافية وفرقا رياضية وفنية ومصاهرات ومشاركات .. وبغير ذلك لا تنجح انتخابات أو مؤسسات ولا تفيد قصائد ومهرجانات، المصالح والأعمال هي الدبلوماسية الإلهية وهدية الله الى البشر لينشئوا المجتمعات والسلام والاستقرار، ويبدعوا في الشعر والموسيقى والعمارة!