أمضيت بصحبته يومين في بيروت، كان متحدثا ومحاورا رئيسيا في لقاء مكرس لمناقشة الأزمة السورية. كان مدهشا ولامعا في سرده لمعطيات الأزمة في بلاده.
بينما كانت أبواب القصور الرئاسية والأميرية مفتوحة لمن يرغب من السوريين المعارضين، رفض حسين العودات مغادرة بيته المتواضع في دمشق. بسخرية مرة علّق على دعوة تلقاها من عاصمة خليجية لحضور اجتماع لأقطاب المعارضة؛ “ديوان أميري مهيب يهتم لأمر حسين العودات بشكل مفاجئ، ويوصل له دعوة خطية لمنزله في قلب دمشق ليشارك في الاجتماع وعلى نفقة صاحب الدعوة طبعا”.
كان محاورا شرسا لا يطيق المواقف الرمادية؛ معارضا حتى النخاع لنظام استبدادي وفاسد على حد قوله، وساخطا حدّ القرف من معارضة تتاجر بدماء السوريين. تقدمي يثير الإعجاب بالنظر إلى تاريخه مع “البعث”، وعلاقته مع النظام الحاكم. كان له موقف جذري من كل جماعات الإسلام السياسي، خاصة الراديكالية. في جلسات الحوار الطويلة كان يفصّل في مواقفها تجاه الأزمة السورية نقدا وتوبيخا لم أسمع مثله، وبحضور من يمثلهم من العرب.
حسين العودات بالنسبة لي كان اكتشافا متأخرا لمفكر وسياسي سوري من طراز رفيع. كنت قد قرأت له الكثير من قبل، لكن لم أتخيل يوما أنه بهذه الكبرياء والبساطة. فكره وعقله معجون بحب سورية، لا يتصور أبدا الحياة على أرض غير أرضها.
في اليوم الثاني من حوارنا، كان “أبو خلدون” يستعجل العودة إلى دمشق. كيف الطريق إلى دمشق، سألته؟ رد “عادية الحاجز تلو الحاجز، وعلى أطرافها مسلحون من كل الملل والاتجاهات”.
ألاتخشى على حياتك؟ قال: “حياتي هناك معلقة بدمشق”.
شعرت تجاهه بود كبير، وأظن أنه بادلني نفس الشعور؛ فما إن ننتهي من جلسات الحوار الرسمية حتى ندخل في حوار ثنائي لا تجد مثله إلا بين أردني وسوري تجاورا الدهر كله، وتقاسما الجغرافيا والتاريخ والتقاليد.
كان موجوعا ومقتولا في داخله لما حل ببلاده. يسترسل في أمسيات بيروت بعرض مأساة السوريين جراء الحرب، ومعاناتهم مع الإرهابيين و”الشبيحة”. لم يكن يتصور في حياته وقد تجاوز السبعين بسنوات أن يرى سوريا يقتل شقيقه، أو يقتحم بيت جاره وينهبه. سرقوا بيتا لأحد الأصدقاء المقريبن، قال لي، وعاد هذا الصديق ليشتري أثاث بيته مرة ثانية من”الحرامية”.
روى لي محاولات كثيرة بذلها لدفع النظام إلى طريق التفاهم مع السوريين، ومثلها لترشيد المعارضة كي تظل وطنية وسورية، لكنه أقر بفشله، فاختار أن يقف على مسافة واحدة من الطرفين؛ معارضا لنهجين يأخذان سورية إلى الهلاك.
لم تفلح المعارضات السورية في إغراء حسين العودات الزاهد في المال والشهرة، ولا نجح النظام في ضمه لصفوفه ومليشياته كما كان يسميها. ظل كما يحب أن يكون؛ سورياً يعتز ببلده وشعبه، ويؤمن بنهار تنقشع فيه الغيمة السوداء من سماء سورية.
عندما ودعته في بهو فندق “فينسيا” تواعدنا على اللقاء من جديد في عمان أو بيروت أو”في دمشق” قالها وهو يهرول نحو الباب صوب دمشق.
مثل جميع السوريين كان حسين العودات جديرا بالحياة، وقد عاشها، وسيعيشها من بعده السوريون. على روحك ألف سلام.