ذكرنا أمس أنّ المؤشرات المطروحة على تراجع التنظيم أغرت كثيراً من المحللين والسياسيين إلى القفز لاستنتاج متعجّل بأنّ “لعبة داعش” انتهت، وأنّ المصالح الدولية والإقليمية التقت على ضرورة التخلص من هذا الوحش الذي نما في ظل حالة “غياب التوافق” الخارجي وفشل النظام الداخلي؟
صحيح أنّ داعش اليوم في مرحلة تراجع وانكماش وتلقي الضربات، مع تفكك الصورة المرعبة المتوحشّة لتنظيم مصفّح غير قابل للكسر، وهي تخسر عسكرياً بانتظام، وتخشى اليوم أن تخسر وجودها في محافظة دير الزور الاستراتيجية، كما يحدث في الأنبار، إلاّ أنّ المعارك الحقيقية ستكون في كلّ من الموصل والرقّة اللتين تمثّلان عاصمتي التنظيم في كل من العراق وسورية.
معادلة الموصل والرقّة ليست كالرمادي ودير الزور، وربما الرقّة تحديداً أكثر تعقيداً، لعدم وجود اتفاق كامل بين القوى الدولية والإقليمية على مرحلة “ما بعد داعش” فيها، والأهم من هذا وذاك أنّهما – هاتين المدينتين- تمثّلان معركة وجودية للتنظيم، مع امتلاكه عامل الكثافة السكانية، ما يصعّب من معادلة “الأرض المحروقة” التي نجحت مع الروس في تدمر ومناطق أخرى.
التنظيم لن يتخلّى بسهولة، ولن يهرب من الموصل أولاً، وبدرجة أقل من زاوية الممانعة في الرقّة، لأنّ الجزء الصلب القيادي في التنظيم هو عراقي، ولن يجد مكاناً آخر يهرب إليه، وهنالك أيضاً آلاف العائلات، من الأطفال والنساء القادمين من الخارج، أوروبا والعالم العربي وآسيا الوسطى، لذلك لن تكون معركة سهلة في هاتين المدينتين، حتى مع التدخل المباشر من القوى الدولية الكبرى.
مع ذلك، دعونا نتصوّر أنّ التنظيم انهار أمام الضربات العسكرية، وقرّر تغيير قواعد اللعبة والتخلّي عن المدينتين، فهل سيختفي أم أنّه سيعيد إنتاج نفسه، كما فعل في العام 2007-2008، في العراق، إذ كان الجميع يظنّ بأنّ التنظيم انتهى، فيما كان يمر في عملية إعادة هيكلة ومراجعة استراتيجياته وتطويرها، والتحول من العمل العسكري للحفاظ على الأرض إلى العمل الأمني السرّي، أي حرب العصابات، والوصول إلى مصادر التمويل المناسبة عبر اتخاذ “نمط المافيا”، وفرض رسوم على أصحاب الأعمال والشركات والتجّار.
على الأغلب، فإنّ التنظيم إذا خسر المدينتين، أو إحداهما، سينتقل نحو الصحارى والبوادي، ويعيد بناء قدراته وإمكانياته متريّثاً الفرصة المناسبة للصعود، مرّة أخرى، مستفيداً أكثر من التجارب السابقة، كما حدث معه سابقاً، في حال لم يتوافر حلّ سياسي يرضي الشرائح الاجتماعية المتعددة، ويعزز المناعة الاجتماعية في مواجهة التنظيم.
هذه السيناريوهات، أو بعبارة أدقّ الأشكال التي يتحوّل عبرها التنظيم، ما بين المجموعات السريّة التي تمارس الاغتيالات، إلى مجموعات أكبر في حرب العصابات، وصولاً إلى إقامة دولة، وبالعكس، ليست مقتصرة على تنظيم الدولة، فلو راجعنا ما حدث مع حركة طالبان في أفغانستان سنجد سيناريوهات قريبة من ذلك، بعدما فقدت السيطرة على الأراضي انتقلت إلى البوادي، ثم عادت اليوم لتسيطر على نسبة كبيرة من أرض أفغانستان.
والحال كذلك مع تنظيم “الشباب المجاهدين في الصومال”، الذي كان يسيطر على 80 % من مقديشو ومدينة كيسمايو الساحلية الاستراتيجية، ثم هو اليوم يعود إلى حرب العصابات والعمليات الانتحارية والتفجيرات التي يتقنها أكثر، وكذلك الأمر حالة الكرّ والفر في اليمن من قبل تنظيم القاعدة، وغيرها من حالات مشابهة.
في الخلاصة الحلول العسكرية والأمنية على المدى القريب قد تكون ناجعة، لكن الحلول الجذرية لمواجهة هذا “النمط من التنظيمات” تحتاج إلى آفاق سياسية وتنمية اقتصادية- مجتمعية، هذا بالطبع على صعيد البعد الأول المرتبط بدولتهم، لكنّ هنالك بعداً أكثر خطورة وهو الجانب الأيديولوجي!