يسود اعتقاد قدري لدى كثيرين بأن الثورة السورية منتصرة لا محالة، لأن مطالبها محقةٌ أولاً، وتحظى بدعم شعبي ووطني واسع ثانياً، وتقدّم قدراً من التضحيات، يكفي لانتصار حقها على باطل نظام استبدادي: ظالم ومجرم، ثالثاً.
هذا الاعتقاد يواجه، من حين إلى آخر، أسئلة تتصل بالأسباب الكامنة وراء عدم انتصار الثورة، على الرغم من أعوامها الماضية، وحقها الجلي وباطل النظام الواضح كنور الشمس. بانعدام الأجوبة المقنعة، تظهر الشكوك، وتبدأ القناعات بالتراخي، ويعجز العقل التبربري والأخلاقي عن تفسير ظاهرةٍ يؤمن سوريون كثيرون أنها لا تحتاج إلى تفسير، لكنهم يشعرون، في الوقت نفسه، بالحسرة والحيرة، لأن حقها المعزّز بدعمهم لم يلعب الدور الذي يجعل انتصارها حتمياً، ولم يزهق باطل الأسدية وقدرتها على مقاومتهم.
في النزعة القدرية/ الأخلاقية، الغالبة على تفكيرنا، يعتبر انتصار حقنا على باطل النظام أمراً حتمياً لا حيلة فيه لبشر، يفرض نفسه بقوةٍ خفيةٍ كامنةٍ فيه، لا تدركها العقول. ولأن هذه القوة تهزم الباطل، في جميع الظروف والأحوال، فإنه لا توجد مشكلة في نأي الحق بنفسه عما يهتم به العقل العملي من معطياتٍ ومعايير، موضوعية أم ذاتية، مجردة أم ملموسة، مثل ميزان القوى والعلاقات المجتمعية والإنسانية، وما يتجسد فيهما من ترتيباتٍ سياسيةٍ أو قانونيةٍ أو ثقافيةٍ أو اقتصادية واجتماعية … إلخ.
يجعل هذا الفهم الثورة أمراً متعالياً، مستقلاً عن فاعليه وفوق دنيوي، تحول طبيعته دون عقلنته، وربطه بحساباتٍ يخال العقلانيون أن انتصاره يتوقف عليها، بما أن تجلياته تكون سياسيةً غالباً، وتربط انتصاره بشروطٍ واقعيةٍ تتقلص بفضل وعيها احتمالات هزيمته، وتجعله ممكناً، لأنه محكومٌ، كأية فاعلية إنسانية، بمعايير وشروط تعوق انتصاره، وتفضي إلى فشله، إن رافقت تحقيقه أخطاء يعجز عن تجاوزها، كالتي تقترفها المعارضة السورية. وفي تغليب باطل أعدائه على حقه، إذا لم يتخلص من الارتجال، ولم يأخذ بأساليب في العمل الثوري، لا تتعارض مع طابعه، وهوية حراكه من أجل الحرية الذي لا بد أن يتبنى خططاً وبرامج تعبر عنه وتغنيه، وتسهم في تحقيقه، عبر تحويل حق الثوار في العدالة والمساواة والكرامة من حقٍّ كلاميٍّ، تكفي المطالبة به لتحقيقه إلى حقٍّ عملي، تترجمه ممارساتٌ صائبةٌ إلى مهام قابلة للتحقيق، تخدم الثوريين والشعب، ولا تخدم أعداءهما الذين، إن هزمناهم بحقنا الكلامي، هزمونا بأسلحة باطلهم الفتاكة.
لا يكفي أن تكون الثورة علي حقٍّ كي تنتصر. ومن يتابع تجارب التاريخ، يعلم أن انتصار بعض الثورات لم يرجع فقط إلى انسجامها مع مسارٍ تاريخي وإنساني مستقبلي، بل إلى حقيقةٍ إضافيةٍ، هي أن من قادوها عرفوا كيف يوفّرون شروط انتصارها، في واقعٍ صراعيٍّ يتخطّى الكلام والأماني، وكيف يجعلون منها أداةً لترقية حياتهم وتلبية حاجاتهم، وميداناً لصراعٍ يتعيّن انتصارهم فيه بنمط وعيهم وصواب فاعليتهم ونجاعتها.
بفصل حقنا عن شروط تحقيقه، تجاهلنا ما يواجه ثورتنا من تحدياتٍ عمليةٍ متشعبة، وعجزنا عن التصدّي لها. واليوم، وبعد ما تعرّضنا له من نكساتٍ، ليس من الحكمة مواجهة ما اقترفناه من أخطاء أضعفتنا بالندم، أو بوضع ألسنتنا في خدمة ترّهاتٍ كلامية تخدّرنا، وتوهمنا بأننا منتصرون حتماً، بينما تبعدنا فعلياً عما يتطلبه انتصارنا من تقديرٍ وتدبيرٍ عقلانيين وعمليين.
يتطّلب انتصار الثورة الإيمان بانتصارها. هذا صحيح، لكنه لا يكفي. وتنتصر الثورة إذا ضبط أبناؤها مسارها وخدموا أهدافها وجنّبوها الافخاخ والألغام، الخاصة والمعادية. وإذا كان إيماننا بثورتنا هو الذي أدامها، فإن التقصير في خدمتها حال دون انتصارها، وأسهم في إطالة عمر الباطل الأسدي الذي نصب لنا أفخاخاً سقطنا فيها كلها على وجه التقريب، بينما أفاد كثيراً من أخطائنا، وفي مقدمها تناقض إيماننا بالانتصار مع توفير شروطه العملية التي تجعل وقوعه حتمياً.