من يقرأ تقريراً كتبته مجموعة من الخبراء الأوروبيين في كانون الثاني (يناير) الماضي، وأصدره البوليس الأوروبي، عن التغير في عمليات تنظيم “داعش” والخلايا المرتبطة به في العالم، والتوقعات الواردة في ذلك التقرير، سيشعر كأنّه تنبأ بصورة كبيرة بأحداث بروكسل الإرهابية (أول من أمس).
التقرير كان يتحدث عن عمليات شبه مؤكدة ستقع في فرنسا أو بلجيكا بصورة خاصة. ووصل إلى خلاصات مهمة حول خلايا “داعش” وشبكته الممتدة، والتحول في نمط العمليات التي تجري حالياً، ودور المجموعات المحلية في الدول الأوروبية اليوم في القيام بهذه العمليات.
السؤال الذي كان يُتداول أمس في وسائل الإعلام ولدى المراقبين، هو أنه إذا كانت هناك توقعات شبه مؤكدة مسبقاً بالتحضير لعملية كبيرة في إحدى الدول الأوروبية، بل وتحدث مسؤولون بلجيكيون عن اكتشافهم لتحضيرات لعمل إرهابي قبل وقوعه بساعات، أو بعد اعتقال صلاح عبدالسلام بأيام قليلة؛ فلماذا لم تتمكّن أجهزة الأمن من إحباط المخطط وتأمين المناطق الحيوية؟!
سؤال مشروع ومنطقي. وهناك بالضرورة قصور أمني ما، يمكن تفسيره بمحدودية عمل أجهزة الأمن وإمكاناتها المالية المتاحة، والبيروقراطية، والتنافس الداخلي، وحجم الموارد البشرية، والصعوبات الفنية للتعامل مع شبكات ممتدة محلياً وإقليمياً وعالمياً.
كل ذلك صحيح تماماً. ويمكن أن نضيف إليه القائمة الواسعة من الأهداف الناعمة التي تضعها شبكات “داعش” على رادارها، ما يجعل من عملية التأمين مستحيلة عملياً، مع التطور الكبير في القدرة والكفاءة والخبرة التي يتناقلها أفراد هذه الشبكات في كيفية التعامل مع الأجهزة الأمنية واكتشاف الثغرات الأمنية والعبور منها إلى الأهداف المطلوبة.
“داعش” طفرة ونقطة تحول جوهرية في مسار الحركات الراديكالية والإرهابية؛ ليس مقارنة بـ”القاعدة” فقط، بل أيضا الجماعات الأخرى، سواء على صعيد القدرة على التجنيد والدعاية، أو على صعيد الخبرة الفنية في إعداد التفجيرات والعمليات. لكن الفكرة الجوهرية المهمة هنا تتمثل في أنّ هؤلاء الشباب في أوروبا، وبالرغم من صغر أعمارهم، إلا أنّهم سبقوا بأفكارهم وتصوراتهم لتنفيد العمليات الأجهزة الأمنية المحترفة في العالم، وأصبحوا -أي من ينتمون لهذا الفكر- على مسافة أكبر في الأمام؛ يحللون كيف تفكّر الأجهزة الأمنية، وكيف يمكن تفادي ذلك، بينما الخبراء الأمنيون في أوروبا ما يزالون يحاولون اللحاق بهذا “النموذج المرعب” الجديد، عبر وسائل أمنية تقليدية، في العادة.
الولايات المتحدة قد تبدو، أمنياً، نموذجاً مختلفاً بدرجة ما؛ إذ طوّرت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 عمل الأجهزة الأمنية المختصة، وخصصت موارد بشرية ومالية ضخمة جداً، وغيّرت من أساليبها، ونجحت في منع وقوع عمليات ضخمة وكبيرة، مع تغيير في التشريعات والقوانين، بما انعكس -جزئياً- على الحريات العامة، مثل قانون “باتريوت”، ومثل تطوير أساليب التحقيق والاستدراج الأمني.
يمكن عبر دراسة النموذج الأميركي إحداث قفزات كبيرة في هذا المجال. لكن تبقى هذه المعالجات الأمنية قاصرة من دون تعزيز جانب الدراسات والأبحاث السيسيولوجية والسيكولوجية، التي تتيح إدراكاً أفضل وأعمق لأسباب التطرف والإرهاب هناك، وجذوره، وبناء الرواية البديلة التي يمكن أن تواجه رواية “داعش”، وهي رواية ليست دينية، كما تعتقد الحكومات، بل مبنية على أساس علمي في فهم الخطاب وآلياته وتفنيده بصورة عميقة.
ثمّة أسئلة كثيرة تتجاوز الجانب الأمني التقني مطروحة في محاولة فهم هذا التيار وصعوده وقدرته غير المسبوقة على التجنيد، ومن ثم ترسيم الاستراتيجيات المطلوبة في مواجهته. ولعلّ السؤال الأكثر أهمية: ما الذي حدث خطأ في الحرب على الإرهاب منذ قرابة عقد ونصف العقد؟!