في أعقاب استئناف النيابة العامة المصرية، قبل نحو عام، على قرار محكمة ابتدائية قضت باعتبار حركة “حماس” منظمة إرهابية، انخفضت حدة التوتر بين القاهرة وغزة، من دون أن ينقشع ركام الغيوم السوداء التي كانت تلبّد الأجواء بين حركة ذات مرجعية إخوانية انهار عالمها الخارجي إثر إزاحة الحركة الأم عن سدة الحكم في مصر، وبين نظام صنف الحركة الأم كتنظيم إرهابي محظور، ولاحقها بلا هوادة.
بقيت هذه الأجواء المكفهرة على حالها؛ بين هبّة ساخنة وأخرى باردة، إلى أن أعلن وزير الداخلية المصري، أوائل الشهر الحالي، أن التحقيقات والبينات والاعترافات، أثبتت أن القيادات الإخوانية المقيمة في تركيا تقف وراء عملية اغتيال المدعي العام هشام بركات، وأن ذراعها المسلحة في قطاع غزة متورطة في تنفيذ الجريمة. وتم دعم ذلك بإقرارات متلفزة لعدد من المتهمين بالحادث الذي هز مصر في حينه.
هكذا هبّت، على نحو مباغت، عاصفة أكثر سخونة من سابقاتها، ألهبت الأجواء المحتقنة؛ إذ وجدت “حماس” نفسها أمام تهمة بالغة الخطورة، تصدر هذه المرة عن جهة رسمية معنية، وليس عن جهات إعلامية يسهل وصفها بالمغرضة ونعتها بالتحريضية. الأمر الذي هدد بحدوث تصعيد ينذر بتطورات لا تُحمد عقباها، أدهاها أخطر من مسألة تشديد الحصار على قطاع غزة، ونعني به تصنيف الحركة كمنظمة إرهابية.
وفيما عاودت وسائل الإعلام المصرية، على الفور، شن حملة أكثر ضراوة من ذي قبل، ضد الحركة التي أنكرت الاتهامات وطالبت بإقالة وزير الداخلية المصري، عادت “حماس” بعد استيعاب الصدمة إلى خفض جناحها، ومالت إلى التعاطي مع التهمة بشيء من الكياسة وروح المصالحة، وبما أدى إلى وقف الحملة الإعلامية فجأة، لتلي ذلك مفاجأة أكبر، هي قيام وفد حمساوي، من داخل غزة وخارجها، بزيارة غير متوقعة للقاهرة.
وصل وفد “حماس” بتكتم إلى الفندق الذي خصصته المخابرات العامة المصرية؛ وهي الجهة المخولة وحدها التحدث مع الحركة الإسلامية منذ عهد حسني مبارك، ومكثت فيه نحو أسبوع، انقطعت خلاله أخبار الوفد تماما؛ إذ لم يعقد أحدهم مؤتمراً صحفياً، أو يدلي بتصريح، أو تؤخذ صورة بالمناسبة. ثم سافر الوفد إلى الدوحة، وظل معتصماً الصمت، سوى إصدار إدانة لكل الاغتيالات السياسية، بما في ذلك اغتيال هشام بركات، وهو بيت القصيد في تلك الزيارة.
إزاء ذلك، يصبح السؤال عما جرى في القاهرة، ويجري في الدوحة من مشاورات حمساوية مغلقة، بين أصحاب الهوى الإيراني، وبين الممسكين بالعصا من الوسط،، سؤالاً مستحقاً بعد مرور كل هذه المدة، لاسيما من جانب سكان غزة الذين غمرهم قدر من التفاؤل الحذر بإمكانية حدوث انفراجة، تؤدي إلى فتح معبر رفح البري الذي ترابط فيه “حماس” منذ سنوات من دون طائل، سوى جعل الحياة في القطاع المحاصر تضاهي الحياة داخل السجن.
أحسب أن تكتم الطرفين حول نتائج الزيارة، يضج بالمواقف الصاخبة، ويشي أن مصر قالت بلهجة صارمة، إنه ليس في وسع “حماس” هذه المرة، إرضاء القاهرة بالكلام المعهود عن الحرص على أمن الشقيقة الكبرى، وعدم التدخل في شؤونها، والاكتفاء بتصريح إدانة -هو الأول من نوعه- لواقعة اغتيال هشام بركات، وذلك بعد أن تسلمت نسخاً من أوراق التحقيق، المتضمنة حيثيات قضية مكتملة.
وبقراءة مقارنة لهذا التكتم، يبدو أن “حماس” التي تدرك أن الأرض بدأت تضيق عليها، وأن مخاطر تصنيفها كحزب الله، إذا رفعت القاهرة الطلب إلى مؤتمر وزاري مقبل، غير راغبة، ولا قادرة على التفلت من الاستجابة للشروط المصرية، ومنها تسليم المتهمين، وفك الارتباط مع التنظيم الدولي (كإخوان الأردن)، بعد أن أرست السعودية هذه السابقة مع الحزب المهيمن على لبنان.
ولعل وطأة مثل هذه المطالب المصرية، غير القابلة للمساومة، هي التي أملت كل هذا الصمت المطبق من كلا الجانبين، حيال نتائج زيارة يصعب على “حماس” تقبل استحقاقاتها، ويصعب عليها في الوقت ذاته التهرب من مواجهة عقابيل رفضها، لما تراه القاهرة مساساً بأمنها القومي، وتضعه شرطا مسبقا لإغماد سيفها، والكف عن تصعيد الموقف إزاء حركة محاصرة ومعزولة، سواء أكان ذلك على معبر رفح، أو في أروقة الجامعة العربية.