عروبة الإخباري – تخبرنا كتابات وزير الخارجية الروسي عما يدور في خلد رئيس بلاده، ويبدو أنها فرصة تاريخية تخدمه لاستعادة وضع البلاد مرة أخرى.
في الوقت الذي يعتقد فيه قادة أوروبا أنهم على وشك إيجاد حلٍّ لمواجهة أزمة اللاجئين، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق مع تركيا، ثمة أعين تتربص بمستجدات الموقف عن قرب، إنها روسيا، وذلك حسب مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، السبت 19 مارس/آذار 2016.
وقد أفصحت التغريدة التي نشرتها الناطقة باسم الخارجية الروسية هذا الأسبوع عن الكثير، حيث قالت ماريا زاخاروفا في تغريدتها التي نشرتها قبل ساعات من اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل “إن السبب الذي أدى إلى حدوث أزمة اللاجئين يكمن في المحاولات غير المسؤولة الداعية إلى نشر النمط الغربي للديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط”. ولا تعكس تلك التغريدة المناهضة المعهودة من روسيا التي تنتقد أية محاولة يسوِّقها الغرب لتغيير الأنظمة فحسب، بل تعكس أيضاً توبيخ الروس لتلك المحاولات.
روسيا تنفخ في النار
واجهت روسيا اتهامات بأنها تنفخ النار في أزمة اللاجئين من أجل ضرب استقرار أوروبا، وهو الادعاء الذي أكده كبير قادة حلف “الناتو” في أوروبا. قد يشكك أحدهم في صحة هذا الادعاء أو التأكيد الذي أعقبه. بيد أن ما يظهر خلف هذه الحالة من التشكيك هو الحاجة المستمرة لمعرفة ما يدور في خلد القيادة الروسية، وما الأهداف التي ربما تسعى خلفها روسيا أثناء متابعتها لأوروبا التي تواجه العديد من الأزمات.
يبدو أن الاقتراب مما يدور في عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتطلب قراءة ما يكتبه مؤخراً وزير خارجيته سيرغي لافروف. ففي المقال الذي نُشر الشهر الجاري بمجلة “روسيا في السياسة العالمية”، التي تتخذ من موسكو مقراً لها، يقولها لافروف بكل صراحة: “روسيا لا تريد سوى تغيير جوهري”، وبالكلمات الرسمية: معاهدة تتعلق بالهيكل السياسي والأمني في أوروبا. والرسالة توحي بأن القارة لن تشهد استقراراً حتى تصل روسيا إلى هدفها المنشود. فالجملة الرئيسية في المقال تقول: “خلال القرنين الماضيين لا شك أن كل المحاولات لتوحيد أوروبا في غياب روسيا لم تؤد إلا إلى مآسٍ مروّعة”.
ولافروف نفسه ليس مفكراً حراً مستقلاً برأيه عن رئيسه بوتين. فهو وزير تكنوقراط، حيث ظل في منصبه منذ عام 2004، ليصير الوزير صاحب أطول مدة في المنصب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وينحصر دور لافروف فقط في العزف على الآلة الدبلوماسية من أجل ضبط الإيقاع الذي يصدره الرئيس الروسي. صحيح أن المسؤولين الغربيين يقولون إن بوتين غضب على لافروف في الأروقة السرية للكرملين في عام 2014، من خلال قراءتهم لقرار بوتين المفاجئ بضم شبه جزير القرم، وهي الخطوة التي عارضت الادعاءات التقليدية لروسيا بأنها تحاول دائماً الالتزام بـ”القانون الدولي”. لكنه التزم بالصياغة الرسمية. وليس من قبيل المصادفة أن يكتب لافروف مقاله في الوقت الذي تتدخل فيه روسيا بقوة في سوريا، وفي الوقت الذي يهرول فيه الأوروبيون من أجل ضبط سياساتهم تجاه المهاجرين.
ويبدو أن الادعاء القائل إن بوتين “نفخ في نار” أزمة اللاجئين، يعطي دلالة توحي بأنه يتحكم بقوة في سير الأحداث، بينما لم تكن روسيا هي مَنْ بدأت الأزمة. لكنها استفادت من الموقف الذي زاد من فُرقة أوروبا وضعفها. كما عززت الأزمة من قوة وظهور الحركات اليمينية المتطرفة التي تدعمها روسيا.
وكان القائد الأعلى لـ”الناتو” واضحاً للغاية في الإشارة إلى كون روسيا، بالتحالف مع نظام الأسد، كانا سبباً رئيسياً لتفاقم أزمة اللاجئين الحالية، حيث كانت الضربات الجوية التي نفذها الطيران الروسي، خاصة في منطقة حلب، دافعاً أساسياً لنزوح آلاف العائلات نحو الحدود التركية، إلا أنه يجب توضيح أن أزمة اللاجئين لم تبدأ في 2015 على الإطلاق، بل في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013، مع غرق المئات من المهاجرين قرابة سواحل جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، وهو ما سبق التدخل العسكري الروسي المباشر بعامين.
روسيا حمت أوروبا من الفوضى
على الرغم من ذلك نرى بعض التصريحات الغريبة للافروف، حيث يقول إنه لولا تعاون روسيا لكان مصير أوروبا هو الفوضى العارمة، مستشهداً بحالات من التاريخ الأوروبي لتأييد رأيه، مثل الإمبراطورة كاترين الثانية، إمبراطورة روسيا الشهيرة في القرن الـ18، التي قال أحد مستشاريها في ذلك الوقت مفتخراً: “لا يوجد مدفع واحد في أوروبا يضرب دون موافقتنا”، كما استشهد بحروب نابليون وصراع القرم. يمثل لافروف صورة الغرور الروسي كرد على تآمر وإيذاء دول غرب أوروبا لروسيا عبر التاريخ.
ويظهر لافروف وكأنه يعقد مقارنة بين بوتين وبيتر الأول (قيصر روسيا الخامس)، حيث يرى أن كليهما يعتمد على الصرامة والحزم، وأن السياسة الخارجية لكليهما نجحت في جعل روسيا لاعباً أساسياً على الساحة الأوروبية في فترة قصيرة. كما كرر مجدداً النغمة المتكررة التي تقول إن روسيا لم تخسر الحرب الباردة، ولكن كانت هناك سلسلة من الأحداث لم تكن روسيا محظوظة بحدوثها، وقادت في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفييتي.
وحول توسّع الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، يرى لافروف أن هذا الأمر لا يعني انتقال الدول المنضمة “إلى الحرية”، لكن الأمر يتعلق فقط بتغير الجهة التي يخضعون لها، حيث يرى أن تلك الدول حالياً لا تستطيع أخذ قرارات مصيرية دون الرجوع إلى واشنطن أو بروكسل، ويرى أن الاتحاد الأوروبي لا يختلف في هذا السياق عن الشمولية السوفييتية.
حرب باردة جديدة
وتحدث لافروف أيضاً حول وجوب خلق أساسات جديدة لتأمين أوروبا بعد ما حدث عام 1991، وأنه قد حان الوقت لفعل ذلك إذا تم حل المشاكل المنهجية بين روسيا والغرب. ولم يكن حديث لافروف رسالة روسية جديدة، لكن موسكو تحرص بشكل واضح على الدخول في المناقشات الأوروبية الحالية، حيث صرح ديميتري ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي، بهذا الأمر بوضوح في مؤتمر ميونيخ الأخير للأمن. حيث تصدرت تصريحاته عن “حرب باردة جديدة” عناوين الصحف العالمية، كما تحدث عن خطر قيام حرب عالمية ثالثة. وفي المقابل، دعا ميدفيديف إلى مراجعة تركيب النظام الأمني الأوروبي الأطلسي.
ربما يعد العام هو الأمثل لتتقدم روسيا بمثل هذا الطلب، وذلك مع وجود أزمة اللاجئين الحالية التي تهدد نظام الاتحاد الأوروبي بالكامل، واحتمال إجراء استفتاء شعبي حول شكل العلاقة بين بريطانيا وأوروبا، فضلاً عن الحالة الصعبة لكل من فرنسا وألمانيا والمشكلات الأخرى مثل عدم استقرار أوكرانيا وظهور الحركات المتعصبة من جديد في كل الدول الأوروبية، أضف إلى ذلك التوترات الجديدة في منطقة البلقان، مع انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية الحالية.
مما لا شك فيه أن روسيا ليست قوية حالياً بالدرجة التي تريدها، كما أن اقتصادها يعاني بشدة نتيجة للعقوبات المفروضة على البلاد، ولكن لافروف لا يستطيع رؤية هذا الأمر من مكتبه في إحدى ناطحات السحاب الكبرى في موسكو.
وثمة الكثير من الجدل الذي دار حول سياسات بوتين في سوريا، حيث يرى البعض أن روسيا حاولت أن تضع نفسها على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، بل ويذهب البعض إلى ادعاء يقول إنها قد هزمت الولايات المتحدة في ذلك، وهناك أسباب منطقية تدعو إلى هذا الادعاء. فالوضع الحالي بين الولايات المتحدة وروسيا يذكّرنا بأجواء الحرب الباردة، كما يرى بوتين أنه سيحصد نتيجة عمله في أوروبا وليس في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي طالما شغل بال الروس عبر التاريخ، ما قد يقود القارة الأوروبية نحو صراع قادم.