ليس مأزق “الأردنية” فحسب، وإنما كل الجامعات الرسمية. كان “الموازي” خيار الجامعات لتنويع مصادر الدخل وكبح جماح العجز في ميزانياتها. الحكومات المتعاقبة باركت التوجه، لترفع عن كاهلها عبء الدعم. من الناحية العملية، بدا “الموازي” مهربا مثاليا تتنازل الحكومات من خلاله عن واجبها في توفير تعليم جامعي بتكاليف معقولة لمواطنيها.
ومع تراجع قيمة الدعم السنوي للجامعات، كان القبول عبر برنامج الموازي هو طوق النجاة الذي يبقي الجامعات الرسمية على قيد الحياة.
لكن إدارات الجامعات أفرطت في استغلال “الموازي” مع انعدام الخيارات الأخرى؛ فتوسعت في القبول على أساسه، حتى أصبح قوام الجامعات من الطلبة مناصفة بين “العادي” و”الموازي”. وفي المقابل، وحتى قبل سنة من الآن، لم تلتزم الجامعات بسياسة توظيف راشدة؛ فعلى حساب “الموازي” دخلت أفواج من الموظفين، كانت رواتبها كفيلة بابتلاع المردود المالي للبرنامج وعشرة مثله.
استمر مسار التدهور؛ فلم يكن أمام إدارات الجامعات سوى رفع قيمة رسوم “الموازي” بعد أن استنفدت طاقتها الاستيعابية، وأخذت بطريقها برامج الدراسات العليا “الماجستير” على أمل سد الفجوة المتنامية في الميزانية.
يمكن للمرء أن يتفهم خطوة الجامعة الأردنية برفع رسوم “الموازي” لو أنها جاءت في سياق تصور شامل لإصلاح برامج القبول، وتطبيق الحاكمية، وضمن خطة مدروسة لتسوية مشكلة المديونية والعجز. لكن في “الأردنية” وأخواتها من الجامعات الرسمية، تنعدم الخطط والأفكار الكبيرة لإصلاح الحال.
والإشكالية لا تقف عند هذا الحد؛ مؤسسات الدولة عليها أن تتخذ موقفا واضحا وشجاعا من مسألة التعليم العالي. لا يمكن الاستمرار في حالة الإنكار هذه وترك الجامعات الرسمية تواجه مصيرها، لأننا نعرف سلفا النهاية. هل تريد الدولة أن تلتزم بدورها في رعاية الجامعات، أم تفكر بالتخلص منها عبر بوابة “الموازي”؟
“الموازي” كان في الأساس على حساب الجودة، ونظرة عامة لمستوى الخريجين تؤكد ذلك. إخضاع الجامعات الرسمية لمعايير السوق كان خيارا كارثيا؛ فلا الجامعات تغلبت على أزمتها المالية، ولا الأموال التي تمت جبايتها رفعت من مستوى كفاءة الخريجين ومخرجات التعليم العالي.
واكبنا خلال السنوات العشر الماضية سلة من الاستراتيجيات لتطوير التعليم العالي، لم تر جميعها النور؛ فيما ظلت استراتيجية واحدة قائمة ومطبقة، وعمادها العشوائية في إدارة واحد من أكثر القطاعات حساسية وأهمية؛ محسوبيات في القبول والتعيين، ورؤساء جامعات يهبطون بـ”البراشوت”، من دون أدنى مراعاة لمعايير الكفاءة. والجامعات التي تأسست حديثا في المحافظات، تحولت في معظمها لدوائر تعج بالموظفين. منذ يومين، طالعنا في “الغد” تصريحات مبكية لرئيس جامعة جنوبية يشكو فيها وضع الجامعة المالي؛ إذ لا تزيد قيمة الحساب الجاري للجامعة في أحد البنوك على قيمة محفظة متواضعة لمواطن أردني، فيما تبتلع الرواتب 80 % من قيمة الميزانية!
أزمة التعليم الجامعي تتدحرج وتكبر مثل كرة الثلج منذ عقد من الزمن، ولم نفلح في احتوائها. وهي اليوم تبلغ ذروتها بالتصعيد الجاري في “الأردنية”. الأرجح أن أحدا لن يقف أمام لب المشكلة، وسيداورها من أطرافها للخروج من المأزق ليس إلا. الحكومات رمت عن ظهرها الملف، وتركت إدارات الجامعات في مواجهة مع الطلبة والمجتمع؛ تلك هي المشكلة.