على رؤوس الأنامل كثير من الحبر وفي الأنفاس رائحة ورق عتيق. كانت الدنيا غيرها الآن، والجريدة ليست مجرد أداة تنقل الأخبار ومجريات الأحداث في بلادنا والعالم، كنّا نتباهى بأننا قرّاء صحف ومجلات. تأبُطُ جريدة يعني أن الفاعل على شيء من الثقافة والدراية بشؤون المجتمع والنَّاس، اسمها يشي بميول حاملها، لليسار صحفه ولليمين كذلك، والقليل بينهما، مجتمعاتنا لم تهضم بعد فكرة الوسط، إما معنا وإما ضدنا، على الرغم من نشأتنا على مقولات مثل «نحن أمة وسط» و»خير الأمور الوسط».
ما عليه، ليس هذا موضع بحثنا الآن، نكتب عن الورق لا عليه. أنتمي إلى جيل ظلَّ الحبر والورق لصيقاً به سحابة عمره، وما كان أبداً مجرد حبر على ورق، كانت الصحف تستقطب كبار الأدباء والمفكرين، رؤساء تحريرها أصحاب رأي وموقف، محرّروها شعراء وروائيون وكتّاب فكر واجتماع وسياسة واقتصاد، مقالاتها تهزُّ حكومات وتُعلي شأن أخرى، صفحاتها الثقافية وملاحقها الأدبية منابر المبدعين ونوافذ الجديد في الشعر والرواية والنقد والفلسفة والمسرح والسينما والرسم وسائر الفنون. الخلاصة: كانت الجريدة مصدراً من مصادر المعرفة لا مجرد ناقل خبر أو حدث.
ليست ماضوية أو رجعية هذه المقاربة ولا تقول بإيقافٍ مستحيلٍ لعجلة الأيام. مناسبة الكلام إعلان صحف عريقة مثل «الاندبندنت» البريطانية و»البايس» الأسبانية التوقف عن إصدار طبعتيهما الورقيتين، وإعلان إذاعة «بي بي سي» البريطانية توقفها عن بث فقرة أقوال الصحف التي دأبت عليها طوال ستين عاماً، كأنها تقول لم يعد لدى الصحافة الورقية ما تقوله، لقد تكفلت الميديا البديلة بقول كل شيء. فهل واقع الحال على هذا النحو؟ أياً تكن الإجابة فإنها أخبار مؤسفة لأجيال كاملة نشأت على حُبِّ الحبر والورق قبل أن تزحف الشاشات الصغرى لتأخذ الحيّز الأكبر، وتغدو الأنامل أكثر استعمالاً من الأقلام، تُمارس فعل اللمس وكأنها تحفُّ فانوساً سحرياً لا يخرج منه مارد جبّار بل دنيا كاملة الأوصاف.
شتّان بين لمس الورق ولمس الزجاج البارد للأجهزة الذكية. لكنها رؤية رومانسية بعض الشيء، لا يفيد الآن الوقوف على الأطلال ورثاء الورق، الزمن مستعجل ولا وقت للوقت، إن لم تسر معه تجاوزك وتركك حيث أنت واقفاً تندب زمنك. هي فقط كلمة وداع، لعلها مبكرة بعض الشيء، لكن لحظتها لا محال آتية. ثمة أجيال تنشأ الآن وتكبر من دون أن تشمَّ رائحة الحبر وتتحسَّس ملمس الورق وتسمع حفيف الصفحات، هي صفحة واحدة بصفحات كثيرة، جهاز كومبيوتر يصغر تباعاً أو هاتف محمول نُقلِّبُ فيه الصفحات الافتراضية ونكتب بحبر افتراضي. من على أريكتك أنّى حللت أو ارتحلت تجول الدنيا «فاتحاً» العواصم والمدن، مستطلعاً ما يدور هنا وهناك بلا حاجة للتحرك من مكانك قيد أنملة. فالأنملة صارت في حجم كوكب، بلمسة واحدة تنقلنا من قارة إلى قارة، ولعلها غداً تحملنا إلى أبعد من حدود الكواكب، فما هو متاحٌ اليوم لمراكز الأبحاث ووكالات الفضاء سيغدو حتماً متاحاً للجميع، إن غداً لفضائه قريب!
يقول المحرر العام لجريدة «البايس» أنطونيو كانيو في معرض تبريره لإيقاف طبعتها الورقية «إن عادة شراء الصحف الورقية باتت عادة قديمة»، وبالفعل فإن «البايس» لم تعد توزع أكثر من ٢٢٠ ألف نسخة ورقية وهو رقم ضئيل مقارنة بعدد سكان إسبانيا الذي يتجاوز ٤٧ مليون نسمة. فكيف يكون الحال لو ذكرنا أرقام توزيع الصحف العربية المتحوِّلة صفحات مقابر ورقية وصفحات وفيات؟
عزاء الورق أو ما تبقَّى منه (حتى العملات الورقية زائلة خلال سنوات كما يتوقع مصرفيون) أن شاشات اليوم ما كانت لِتكون لولاه. على صفحاته كتب العلماء معادلاتهم وأبحاثهم ونظرياتهم قبل أن يجعلوها حقائق ملموسة، وعلى الصفحات نفسها خطَّ الأدباء والشعراء سطور اشتياقهم ووجدهم وحنينهم. ولعله، أي الورق، يكون أكثر سعادة ببقائه شجراً وراف الخضرة والظلال في عالم يتصحّر ويتمعدن ويفقد كثيراً من الخضرة وسائر الألوان(!)