منذ أواسط العام 2015، تَشبَّه العراقيون بمضاربي البورصات. وضع أغلبهم تطبيقات الوكالات الإخبارية على هواتفهم المحمولة وأخذوا يتلقّون الأخبار العاجلة عن تذبذب أسعار النفط وحجم المتبقّي من الاحتياطي النقدي، وأزمة مرتبات الموظفين في مؤسسات الحكومة. يضع العراقيون سلّة الأزمات المالية هذه على طاولاتهم ويحلّلونها كأنهم خبراء مَهَرة. لم يعد مستغرباً، والحال هذه، أن تسمع مجموعة من الشبان يتناقشون بصوتٍ عالٍ في مقهى أو مطعم، حول واردات النفط ونتائج هبوط سعره أو ارتفاعه. صار الجميع يعلم بأنه يعيش في ظلّ دولة ريعية، وانخفاض أسعار النفط يعني أن الواقع الاقتصادي سيزداد صعوبة، وأن المشاريع الخدمية التي وُعدوا بها أصبحت هباءً وقبض ريح، وأن ثقتهم بالحكومة وأحزابها تلاشت بعد أن صار رقم “600 مليار دولار” ذهبياً، ويتكرّر دلالة على ضياعه بين مشاريع مُقاولي الأحزاب الفاسدة، والتي لم يوجد لها ملمح يُذكر على الأرض خلال العقد الماضي.
وقد وصف رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي الوضع المالي الحالي بأنه “أخطر من أيِّ وقتٍ مضى”، وشرح كتاجر مُفرق، أمام مجموعة من أساتذة الجامعات، تفاصيل الأزمة المالية: “إيرادات النفط المصدَّر تقترب من 59 تريليون دينار وهناك كلفة لإنتاج النفط، يتبقّى من المبلغ 45 تريليون، وهناك ديون متراكمة، فالمتبقّي يكون 40 تريليون، والرواتب والتقاعد تحتاج إلى 50 تريليون”. حسبة العبادي هذه كانت محاولة لإقناع هؤلاء الأساتذة، الذين تظاهروا بسبب تخفيض رواتبهم، بالعدول عن تهديدهم بإغلاق الشوارع والإضراب. بعدها فرد العبادي يديه وتساءل “كيف يتم الصرف على الحرب والصحة والتعليم والزراعة والخدمات والفقراء وغيرها؟”.
بدا سؤال العبادي كالماء البارد الذي صُبّ على أجساد العراقيين. فالبلاد خرابة كبيرة، وتعاني جميع القطاعات فيها، علاوة على اتساع حالة الفقر وارتفاع معدّل البطالة، وهذا يعني أن الواقع سيظلّ على ما هو عليه، بل سيزداد سوءاً، حيث أن الأزمة الماليّة أوقفت منذ العام الماضي نحو 7 آلاف مشروع لعدم وجود تخصيصات ماليّة لها، والكثير من هذه المشاريع تمسّ الحياة، مثل أزمة النازحين الذين بلغوا نحو 4 ملايين نازح، والتعليم والطب والسكن. بيد أن القلق الأكبر لاح على وجوه الموظفين في المؤسسات الحكوميّة، إذ إنّهم يتلقّون يومياً تسريبات وأخباراً عن نفاد الأموال من خزائن الدولة، ويتلقّون مواعيد متفاوتة لعدم قدرة الحكومة على دفع رواتبهم، ويعدُّ هذا، بالنسبة لهؤلاء، جوعاً قادماً وقلقاً على أوضاعهم في المستقبل القريب.
بالمقابل، أخذت الكتل السياسيّة المُشاركة في الحكومة تردّد بشكل جنوني أن “رواتب الموظفين خطّ أحمر” ردّاً على كل مقترح يسعى إلى خفّض هذه الرواتب، في مسعى منها للحصول أولاً على رضى هذه الفئة الكبيرة التي تقدّر بنحو 6 ملايين موظف من أصل نحو 34 مليون نسمة هم عدد سكّان العراق، خاصّة مع اقتراب الانتخابات المحليّة لمجالس المحافظات. وخشية ثانيّاً من انفراط “العقد الزبائني” الذي عقدته الأحزاب مع هؤلاء في السنوات الماضيّة. وتفسّر هذه الحالة، من جملة ما تفسّره، أن “العمليّة السياسية” مهدّدة بالكامل إذا ما فضّ هؤلاء العقد المبرم بعلمهم أو من دونه، وبالشراكة مع أحزاب السلطة.
وطالما أن تهديداً حقيقياً بالبقاء يواجه الأحزاب الحاكمة، فإن “صقور” العمليّة السياسية أخذوا يقترحون حلولاً من أجل تسليم الموظفين رواتبهم بمواعيدها المحدّدة، وعدم المساس بها مطلقاً. سرعان ما أعلن نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية “المُرشّق”، أن على الحكومة “توفير الاحتياجات الضرورية”. لكن كيف ذلك، يردّ “بتقديم حلول للبرلمان للاقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي”!
الاقتراض الخارجي كان أوّل مقترح على طاولة حكومة العبادي، لكن الشروط الدولية مقابل الاقتراض لم تبدُ سهلة، فهي تفرض على العراق رفع الدعم عن الوقود، وإلغاء وظائف، وخصخصة الكثير من القطاعات، فضلاً عن أن المالكي سبق له أن جرّب هذه الطريقة في ولايته الثانية، عندما حاول إلغاء “الحصة التموينية”، (وهي السلّة الغذائية المنكوبة للفرد العراقي، والتي تعاني فساداً كبيراً في توفيرها، إلا أنها آخر الخدمات التي تربط العراقي بالسلطة)، ووُجه حينها بغضب تُرجِم إلى تظاهرات كبيرة أجبرته على التراجع عنها.
لدى “الصقور” حلٌ آخر وهو “الاقتراض من المواطنين” الذي طرحه المالكي أيضاً مزهوّاً، وأثار سخريّة كبيرة في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه برغم هذا أخذ يتردّد على لسان أغلب الساسة، الأمر الذي وجد له آذاناً صاغية لدى محافظ البنك المركزي، الذي قال في مؤتمر صحافي أن 77 في المئة من العملة العراقية المتداولة اليوم في الأسواق “مكتنزة في الدور السكنية”، وصار هذا الأمر بمثابة مصدر إزعاج للحكومة العراقيّة لأن هذه الأموال “خارج القطاع المصرفي”.
سحر المال “المكتنَز” أدّى إلى اقتراحات أخرى، تلقّفها بداية رجل دين يتزّعم تيّاراً سياسياً غارقاً في الفساد، حيث دعا إلى جرّ الأموال إلى المصارف عبر رفع فوائد الإيداع إلى 10 في المئة، مطمئناً بأن الجميع سيذهب لإيداع أمواله مقابل هذه “الفائدة الكبيرة”. الحكومة، من جانبها، درست هذا الموضوع، ويتردّد أنّها على وشك القبول به من أجل توفير السيولة الماليّة و “تحريك عجلة الاقتصاد”. لكن لم يمضِ وقت كثير على تسريب وثائق تثبت تورّط الكثير من المصارف الأهليّة بعمليات غسيل أموال، وتهريب العملة الأجنبيّة إلى الخارج، فضلاً عن كفالتها شركات خاسرة، وتورّطها أيضاً في رفض سحب أموال المودعين وتحديدها مبالغ قليلة يمكن سحبها!
“ليست هذه مشكلة”، يردّ عضو في اللجنة المالية في البرلمان العراقي، قبل أن يضيف “ليتم التعامل مع المصارف الحكوميّة.. هناك الأموال مضمونة”. هذا الجواب كفيل بسرد نكات عراقيّة تقترب من البذاءة. فطوال العقد الماضي، تعرّض أكثر من مصرف حكومي إلى السرقة، ومن على بوابات هذه المصارف أيضاً تمّت سرقة الرواتب والإيداعات. علاوة على كلّ هذا، فإن الحكومة ضعيفة، ومن يضمن بقاءها؟ فهي سبق لها أن فقدت ثلث البلاد لمصلحة تنظيم “داعش” الإرهابي، وهناك تُركت الأموال، ولم يستطع أحّد استعادتها، وهي تواجه اليوم تهديدات كبيرة: الحديث عن “دولة عميقة” يقودها المالكي ومن خلفه ميليشيات، ومحاولة الحشد الشعبي الاستيلاء على السلطة أيضاً إشاعة لا تنفكّ تتردّد.. ومن يضمن عدم سرقة الحكومة الأموال، طالما أنّها سرقت موازنات بالكامل ولم يقدّم أحّد إلى المحاكمة، ولم يتمّ استرجاع أيٍّ منها؟
“ماكو ثقة”، ردّ أحمد البشير، في برنامج “البشير شو” الساخر الذي يُعرض على يوتيوب وهو يستعرض ـ ساخراً – تدابير الأحزاب الساعية إلى سحب الأموال من منازل المواطنين للحيلولة دون وقوع البلاد في الإفلاس. وهذه الجملة البسيطة تترجم الكثير من علاقة العراقيين بسلطتهم اليوم. إنها أزمة ثقة مفقودة. الطرفان يحاولان فضّ الشراكة. الموظفون يريدون رواتب ثابتة وأماناً اقتصادياً في بلد تبتلعه الرمال المتحرّكة. المواطنون ملّوا من السرقة، وفقدوا شعورهم بالجدوى من كل مشاريع الحكومة وطروحاتها، أما الأحزاب التي تقبض على السلطة فهي متضرّرة لأنها باتت تجني ثمار ما اتخذته من سياسات غير محسوبة – وغير أخلاقيّة على وجه التحديد – تجاه مواطنيها حينما اعتبرتهم زبائن على الأرض التي يعيشون فيها، فمدّت عدداً منهم بالمال أجراً لاستمرارهم بالسلطة، بينما جوّعت الأغلبيّة وجعلتهم يقتاتون على فتات هؤلاء، فضلاً عن تحقيرها المستمر لهم بجعلهم يعيشون بلا أبسط حقوق، من أمان وكهرباء وصحة وتعليم.(السفير)