الطرح الروسي الأخير، عبر نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف (في مؤتمر صحفي بموسكو)، بشأن إمكانية قيام “نموذج اتحادي” في سورية، يمثّل اليوم السيناريو المتفائل، بل الأكثر تفاؤلاً أمام السيناريوهات الأخرى المطروحة، ليس فقط لسورية، بل حتى للعراق وليبيا واليمن، وربما دول أخرى!
ما هي السيناريوهات الأخرى المطروحة؟ سيناريو التقسيم، الذي أشار إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في حال فشلت الهدنة، وألمحت إليه تسريبات إعلامية أوروبية بخصوص ليبيا، مع مؤشرات فشل حكومة الوفاق الجديدة هناك. أما السيناريو الآخر، فيمكن اختصاره بكلمة واحدة: “الانهيار”! وكلماته المفتاحية؛ حروب داخلية وأهلية، وشلالات من الدماء، وإمارات طائفية وعرقية متقاتلة، وحروب إقليمية ودولية بالوكالة، ومزيد من اللاجئين والدمار والقتلى.
من الضروري أن نعي تماماً، وأن ندرك جيّداً أنّنا أمام لحظة تاريخية انتقالية بالكلية؛ فنظام “سايكس-بيكو” يتفكك، والدولة الوطنية (ما بعد الكولينيالية) لم تعد مؤهلة ولا قادرة على الاستمرار، والجغرافيا السياسية قيد الترسيم من جديد. هذه ليست مؤامرة بل وقائع جديدة؛ إذ لا يمكن أن نتصور أنّ العراق وسورية، وربما دول أخرى، يمكن أن تحافظ على شكل “الدولة الموحّدة”، فهذه الصيغة تلفظ أنفاسها الأخيرة.
المطلوب اليوم البحث عن الشروط والروافع السياسية والإقليمية والدولية لتوفير البيئة المناسبة للكيانات الجديدة، أو بعبارة أخرى الانتقال من الدولة الموحدة إلى الدولة الفيدرالية. وهي عملية انتقال تحتاج توافقات داخلية وإقليمية ودولية من جهة، وعمليات انتقالية متدرّجة، وقوانين دستورية وأنظمة يتم اجتراح تركيبتها طبقاً لكل دولة من الدول.
الصيغة الفيدرالية ليست سيئة، بل هي أفضل من الصيغة الحالية، إذا كانت هناك خطّة محكمة؛ لأنّ الفيدرالية تسمح بالاعتراف بالتنوعات العرقية والدينية والطائفية، وتكفل حقوق الأقليات والتمثيل المتوازن، والتعايش السلمي. وهي مفاهيم ومصطلحات تمّ تجاهلها وإنكارها خلال حقبة الدولة القُطرية، وربما هذا الفشل في الإدماج والشراكة هو أحد أسباب الانهيارات الكبرى التي نشاهدها حالياً.
من زاوية أخرى، الصيغة الفيدرالية هي الحل لتضميد الجراح الداخلية الغائرة في كثير من المجتمعات العربية، جراء حمامات الدم والمآسي التي نجمت عن الصراعات الداخلية؛ وهي فرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير في إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، ومعالجة الجوانب الإنسانية الملحّة. فلا نتصوّر أن ينسى الناس بسهولة على المدى القصير الثأر والانتقام لما حدث.
لكن، من الضروري أن تتزامن عملية التفكير بالفيدرالية مع تطبيق نظام العدالة الانتقالية، ومحاسبة مجرمي الحرب؛ فلا يجوز أن يكون المجرمون شركاء في السلطة أو المرحلة المقبلة، مثل هذا التصور لا يمكن أن ينجح!
الدكتور محمد الأرناؤوط يطرح مقاربة مهمة جداً في استلهام نموذج “البلقنة الجديدة”، الذي اكتسب سمعة سيئة في العالم العربي. لكن الأرناؤوط المتخصص بعمق في الدراسات البلقانية، يصحح الأفهام، ويتحدث عن الأبعاد الإيجابية لمفهوم البلقنة الجديدة في البوسنة والهرسك وكوسوفا، بعد اتفاق دايتون 1995، واتفاق الاتحاد الكوسوفي في بروكسيل 2015. فهذه الصيغة جاءت بعد حروب داخلية طاحنة في التسعينيات في أجزاء يوغسلافيا، وهي شبيهة بالحالة العربية من وجود تداخلات دينية وإثنية، ما جعل من صيغة الاتحادية الحل الوحيد لتجنب الأزمات وانفجار الصراعات مرّة أخرى.
مرّة أخرى، “البلقنة الجديدة” أو الصيغة الفيدرالية متفائلة جداً، وهي الحل السياسي الوحيد. لكنّ الوصول إليها ليس أمراً سهلاً، بل عملية معقدة، إلاّ أنّ الحديث عنها منذ الآن، وطرحها على الطاولة في العراق وسورية واليمن وليبيا، يساعد كثيراً في تقديم “أفق سياسي” وهدف للمجتمعات للخروج من المحنة الحالية، وتشكل بديلاً لحالة الصراع الوجودي الراهن!