لأن اللعب صار على المكشوف، وولى زمن الغمز واللمز، ولأن الضرب صار في الوجه ولم يعد تحت الحزام، كان طبيعياً أن يلجأ بعضهم إلى أسهل طريقة للرد على حملة «الإخوان» ضد دعوة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي شعبه إلى التبرع لدعم اقتصاد الدولة التي عرفت باسم «صبّح على مصر»، بنشر «النظام الأساسي» لـ «الإخوان» الذي يُلزم أعضاء الجماعة تخصيص جزء من دخولهم لمصلحة الجماعة وليس الوطن! وأن يستخدم بعضهم أبسط وسيلة لدحض تهكم النشطاء المنتمين إلى التيار الناصري على الدعوة نفسها بالاستعانة بالأرشيف، وإظهار الإعلان الشهير للمرشح الرئاسي في الانتخابات الأخيرة حمدين صباحي، والذي دعا فيه الشعب المصري إلى التبرع بجنيه لتمويل حملته الانتخابية! لكن المسألة أعمق وأكبر من مجرد تبادل حملات التهكم والسخرية، ورد الصاع صاعين بين فرقاء السياسة من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو تفنيد ما ورد في خطاب أو بيان أو تصريح.
الأمر لا يخص مصر وحدها وإنما يمتد ليشمل غالبية الدول العربية التي تواجه سرطان التفتيت والتشرذم والتآكل، وتعاني موجات البذاءة أو التحقير والاستهزاء. أتى «الربيع العربي» ومعه رذاذ «التهريج العربي»، وأياً كانت الأسباب، فإن الواقع يشير إلى أن ذلك الربيع أفرز دولاً وقد انقسمت وأوطاناً وقد تصدعت ومجتمعات وقد انقلبت على نفسها، فتحول الثوريون إلى مهرجين، والهتافات إلى بذاءات، والنضال إلى وبال طاول الجميع. يسخر «المهرجون» من كل تصرف أو إجراء أو قرار أو حتى فاجعة، يضغطون لإلحاق الأذى بمشاعر كل من يؤمن بفكرة أو اعتقاد أو انتماء، يكسرون حواجز الاحترام واللياقة وحُسن الخُلق، يضغطون لإطاحة كل مكانة، والاستهانة بأي وقار، وضرب أي قيمة للاحترام، يُلبسون الفوضى ثوب المرح، والانفلات زي المتعة، والجهل ملابس السعادة.
«المهرجون» يصطادون في الماء العكر والصافي أيضاً، يُقمعون المنطق ويستهزئون بالعقل ويطيحون الرزانة. ظهر هؤلاء في ثوب الظرفاء وعديمي المبالاة ودعاة المرح ليطيحوا كل القواعد والثوابت والأعراف. سلاحهم الضحك والسخرية وسرعة البديهة وحبك الأكاذيب، وبراعة استخدام التقنيات الحديثة وتطويع الموهبة بالرسم أو التصوير، أو سرد الحكايات ونظم الشعر، أو كتابة القصص وتحويلها إلى شباك تلتف حول الضحية فلا تجد مخرجاً أو معيناً، حيث يخشى النبلاء أن تطاولهم سهام التجريح أو شظايا البذاءات. نجح المهرجون أحياناً في مصر وغيرها ويبدو أنهم حتى الآن لا يصدقون أن المبالغة في التهريج أفقدتهم القدرة على تحريك الناس، ولا يدركون أن كثرة التهكم حولتهم من ظرفاء إلى سخفاء، ولا يعرفون أن الناس في مصر اندفعوا إلى الشوارع في 25 كانون الثاني (يناير) 2011 ليس فقط استجابة لدعوات الخروج والتظاهر أو ليكونوا ضمن مفردات حملة الاستخفاف بنظام مبارك، وإنما لأن دوافع منطقية جعلتهم يتدفقون إلى الشوارع ويملأون الميادين للمطالبة برحيله. وليس سراً أن المهرجين ساهموا أيضاً في إسقاط نظام «الإخوان»، لكنهم ينكرون أن الشعب خرج على حكم «الإخوان» ليس فقط للخلاص من تصرفات رئيس سخروا منه وظلت طريقة كلامه مثار جدل ومحل استغراب، ولكن لأن الشعب وجد الدولة في طريقها إلى السقوط، والحدود في سبيلها إلى الزوال، والمستقبل في طريقه إلى الظلام. أما لماذا يصر «المهرجون» على مواصلة نشاطهم من دون كلل أو ملل أو يأس؟ فلأن النكتة السياسية اندثرت، والمبدعين رحلوا، والساحة خلت لهم، وهم لا يعملون ولا ينتجون ولا ينشغلون إلا بالسعي إلى إفشال غيرهم، ونشر الكآبة بالضحك، والإحباط بالسخرية، والنكد بالمزح والتهريج. أمسكوا بالقفشات وأظهروا العورات واستغلوا فراغاً سياسياً خلفه ضعف الأحزاب واهتراء النخبة وخذلان النشطاء، واستثمروا ولع الناس وشغفهم وإقبالهم على الظهور في الشاشات، فأثروا في هؤلاء المصابين بمرض Mediatization أي إدمان فئات من الناس التفاعل مع الإعلام، فئة لا تعمل من أجل قيمة العمل، أو اكتساب الدخل، أو تحقيق ربح، وإنما لأجل الظهور في وسائل الإعلام، وتحقيق الشهرة. بالنسبة للسيسي يبدو أنه لا يهتم كثيراً بنشاط «المهرجين»، لذلك وجَّه الكلام في خطابه المطول الأخير إلى البسطاء دون النخبة التي لا تأثير لها سوى مزيد من الدقيق دون طحن، أو «المهرجين» الذين لا يتركون له كلمة أو لفظاً أو تصرفاً أو موقفاً إلا واستخدموه لافتعال السخرية والهزل، لنشر النكد والإحباط واليأس. أدرك البسطاء الرسالة فاستجابوا وتبرعوا فزادوا من معاناة المهرجين… وتهريجهم!