عروبة الإخباري – تتمحور معطيات في الأفق تدفع المتابعين إلى قراءة المشهد بشكل أكثر ضبابية، فيما يتعلق باتفاق وقف إطلاق النار في سورية، الذي أقرته دولتان، تتصارعان فيما بينها وتتناحر أهدافها، ما قد يدفع بأرض الأزمة، إلى مأزق جديد، ويزيد من حدة الظلام الذي يخيم على أجواء سورية منذ نحو خمسة أعوام.
وقف إطلاق نار، لكنه على ما يبدو سياسي وليس عسكريا، فتلك الطاولة التي تدير اللقاءات والمباحثات العلنية والسرية، والتي يعلوها غطاء أبيض، هي في حقيقة الأمر، كما يرى المنغمسون في المشهد، مقصلة تذبح عليها سورية، وتحديدا الشعب، الذي من المفترض أن يكون هو المستفيد الأكبر من الهدنة “خالية الدسم”، نظرا لكثرة الخلافات حولها.
ساعات تفصل عن دخول وقف إطلاق النار، بين المتحاربين في سورية، حيز التنفيذ المقرر فجر غد السبت، لكنه بما لا يدع مجالا للشك، لن يدخل حيز التنفيذ بين المتصارعين على سورية من الدول المحيطة والعالمية، فلأميركا رأي، ولروسيا آخر، ولا تقف تركيا موقف المتفرج، فهي تملك أيضا وجهة نظر تؤكد من خلالها أن الهدنة ليست ملزمة لها، فيما النظام السوري يطرح شروطه، مع ترقب إيراني.
وينشغل الشارع السوري الذي يتفجر دما يوميا، بمراقبة ما سيحدث، بحثا عن طوق نجاة من بحر تلطم أمواجه الدولة منذ سنوات، بيد أن الأمر مختلف كليا، في الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، الدولتان الباحثتان عن أي وسيلة لخلق خلاف فيما بينهما حول سورية.
واشنطن وموسكو اتفقتا على وقف إطلاق النار، لكن ما يشير إلى أن الأزمة أكبر من أي اتفاق بين هاتين الدولتين، هو إسراع كل منهما لوضع عراقيل بوجه الآخر، ما يعكس أن الأزمة السورية ليست صراعا ليس مقتصرا بين النظام والمعارضة بقدر ما هو صراع بين روسيا وأميركا وآخرين.
وفي هذا الصدد يرى الكاتب في موقع “روسيا اليوم” الإلكتروني حسين محمد أن “غياب الثقة بين جميع الأطراف، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد الإقليمي وكثرة القوى المتقاتلة على الأرض، بحيث يصعب بشكل دقيق تحديد من قام بخرق الهدنة، ولا سيما في بعض المناطق المعقدة، من أبرز النقاط التي تعترض تطبيق اتفاق الهدنة”.
ويعتقد أن ” فصل المسار العسكري عن المسار السياسي، خطوة كانت مقصودة من قبل راعيَيْ الاتفاق، بعدما فشلت الجهود الدولية على مدار عامين في توضيح العلاقة بين السياسي والعسكري: دمشق تصر على أولوية العسكري على السياسي، باعتبار أن جوهر الأزمة هو عسكري، في حين تصر المعارضة على العكس”.
الخلاف الروسي الأميركي بدا جليا أمس الخميس، قبيل ساعات من بدء تنفيذ الهدنة، عندما جدد وزير الخارجية الأميركي جون كيري تأكيده على أنه إذا لم تكن مفاوضات السلام السورية جدية فستكون لدى واشنطن خطة بديلة، ما دفع نظيره الروسي سيرغي لافروف إلى الإسراع في نفي وجود خطة بديلة لدى موسكو أو واشنطن لتسوية الأزمة السورية حاليا، أو حتى مستقبلا.
كيري قال أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس نواب بلاده إن واشنطن ستقيم بجدية خلال شهر على الأكثر نيات أطراف النزاع في سورية، وضرورة التحول إلى خطة بديلة، بينما اعتبرت تركيا أن وقف روسيا للغارات الجوية بعد تطبيق الاتفاق سيكون “ضمانا له”.
وما يعمق من جراح “الهدنة” ما أعلنته المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أمس من أن “بعض المسؤولين الأميركيين يحاولون إفساد عملية وقف إطلاق النار”، وأن “التصريحات الأميركية عن خطة بديلة مدعاة للقلق”.
بل أن الأمر غدا أكثر تعقيدا، فردا على ذلك أعلن وزير الخارجية الأميركي أنه أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن “واشنطن ستراقب موسكو”، وأنها لن تنتظر أكثر من أشهر قليلة لترى ما إذا كانت روسيا جادة بشأن المحادثات.
وبحسب ما تناقلته وكالات الأنباء فإن “مصادر دبلوماسية والصحافة الاميركية ألمحت إلى أن الخطة البديلة قد تتضمن تدخلا عسكريا من التحالف الدولي بقيادة واشنطن في سورية”.
ووسط هذا الغليان، من المقرر أن يعلن موفد الامم المتحدة الى سورية ستافان دي ميستورا اليوم أنه ان كانت الظروف متوافرة لاستئناف مفاوضات جنيف حول سورية.
وقال دي ميستورا للصحفيين أمس ان “يوم غد (الجمعة) سيكون يوما في غاية الاهمية، بل حاسما”.
ومع تعقيدات الوضع الميداني على الأرض، في ظل تزاحم في القتال بين منظمات وفصائل عديدة، وتأثير ذلك على نجاح تطبيق وقف النار، فإن هناك خلافا لا يقل أهمية على أرض الواقع بين واشنطن وأنقرة، بخصوص وحدات حماية الشعب الكردية التي أعلنت أول من أمس أنها ستلتزم بالخطة الأميركية الروسية مع “الاحتفاظ بحق الرد على المعتدي في إطار الدفاع المشروع إذا هوجمت”، ليسرع وزير الخارجية التركي مولود أوغلو لتأكيد أن هذه الوحدات تسعى مثلها مثل تنظيم “داعش” لتقسيم سورية، “لإقامة إدارتهم الخاصة”، ومدى تأثير ذلك على الوضع القائم في سورية بشأن الهدنة.
بل ذهب رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو إلى أبعد من ذلك، بقوله ان اتفاق وقف اطلاق النار في سورية “ليس ملزما” لتركيا “المصممة على الرد على أي هجوم يمكن ان يشنه المقاتلون الاكراد”، الذين تعتبرهم انقرة “ارهابيين” على اراضيها.
وتختلف أنقرة مع واشنطن في موقفها من المقاتلين الأكراد، حيث ترى تركيا أن في دعم أميركا لهم تناقضا في موقف الولايات المتحدة “فاعتمادها على منظمة إرهابية من أجل محاربة منظمة إرهابية أخرى أمر في
غاية الخطورة”.
وفيما تختبر أميركا جدية روسيا، أعلنت المعارضة السورية أمس عن اختبار آخر، لكنه يستهدف النظام السوري، مبدية استعدادها لهدنة لمدة أسبوعين، “كفرصة لاختبار جدية التزام الجانب الآخر بالخطة الأميركية الروسية”.
الميدان عاصف، وهواتف الرؤساء ما تزال تقرع أجراسها لتعلن عن مباحثات سلكية ولا سلكية في سبيل انقاذ ما يمكن انقاذه من فرص تطبيق وقف اطلاق النار، رغم الخلافات التي تتعمق، ورغم المعيقات، بيد أنه ما يزال هناك مئات الدقائق، ليبدي كل طرف عزمه الحقيقي في الوصول بسورية نحو بر الآمان، وذلك لن يتعدى مساء هذا اليوم.-(وكالات)