يشعرني الصديق الباحث الأكاديمي الأميركي المتميز مارك لينش، بالغيرة الشديدة، باستمرار؛ إذ لا يكاد يمرّ شهر إلا وتجده يضع جدولاً للمحاضرات والندوات والنقاشات العلمية والأكاديمية التي يحضرها في الولايات المتحدة، عن التحولات والتطورات الانتقالية التي تمرّ بها المنطقة العربية.
آخر هذه المؤتمرات التي يجري التحضير لها، مؤتمر بمناسبة مرور 5 أعوام على “الربيع العربي” في الشرق الأوسط، تنظمه منظمة الدراسات الدولية في آذار (مارس) المقبل. وأنت تتصفح الجلسات تصاب بدوار من حجم الموضوعات المطروحة والخبراء المتخصصين الذين أعدّوا أوراقاً لمناقشتها، مثل: نظرية العلاقات الدولية في الشرق الأوسط المتغير؛ قضايا الصراع والسلام والأمن الإقليمي؛ الدين والعلمانية في اللحظة الراهنة؛ الصراعات العرقية والحالة الكردية؛ الشرق الأوسط في مرحلة تحوّل؛ وعن مصر وسورية وتركيا وإيران؛ وموضوع اللاجئين… وغيرها من ملفات سياسية وأمنية واجتماعية واستراتيجية وفكرية وأنثروبولوجية عميقة.
قبل أيام، كنت أطالع بعضاً من العناوين لأوراق مؤتمر مهم عقده مركز باري روبين في إسرائيل عن مستقبل المنطقة العربية، وتأثير المتغيرات الحالية على الأمن الإقليمي وموقع إسرائيل من هذه التطورات والسيناريوهات المتوقعة وكيفية التعامل معها.
سيقول بعض القرّاء إنّنا نحن كذلك نعقد مؤتمرات وندوات في الأردن وفي العالم العربي. وهذا صحيح، لكنّ هناك فارقا نوعيا، إن شئنا الدقة والأمانة في القول؛ أولاً، في مستوى هذه الأوراق وعمقها وجديّتها في طرح الأسئلة النظرية والواقعية المرتبطة بالتحولات الجارية، وهو أمر مرتبط بالخبرة البحثية. وثانياً، في أهمية هذه المؤتمرات وانعكاساتها الواقعية ونتائجها ومدى اهتمام صنّاع القرار فيما يصدر عنها من إنتاج معرفي وفكري وترجمته إلى سياسات أو أرضية صلبة لبناء السياسات المطلوبة عليها.
الباحثون والخبراء ومراكز الدراسات والتفكير في العالم، ليسوا أمراً ثانوياً أو ترفاً سياسياً ومعرفياً في نظر صنّاع القرار والاقتصاديين ورجال الدولة في الغرب والدول الصناعية والديمقراطية العتيدة، كما هي الحال لدينا.، لأنّهم يدركون تماماً أنّ المعرفة شرط النجاح في صنع السياسات وفي الاقتصاد وفهم الذات والمجتمع وتحليل المشكلات والأزمات والتحديات المطروحة.
جزء أساسي من ضحالة الخبرة البحثية في العالم العربي وعدم جديّة الباحثين وندرة الخبراء المتعمّقين، يعود إلى هذا التجاهل والإهمال الشديد من قبل أصحاب القرار في المجالات المختلفة لهذا الشأن وعدم قناعتهم به. فهؤلاء الخبراء مثلهم مثل فريق كرة قدم، تعدّه تدريباً وتأهيلاً ثم لا يخوض مباريات ويبقى على خط الملعب، فهو بالتأكيد سيشعر أنّ لا قيمة للتدريب والتطوير والإعداد مع مرور الوقت.
في العالم العربي، ومنه الأردن، يشعر المسؤولون والسياسيون بأنّهم عباقرة فوق مستوى الأبحاث والدراسات والخبرات المطلوبة، ولا يحتاجون إلى مراكز دراسات وأبحاث ولا إلى تطويرها، فكل واحد منهم يفهم في كل مجال أكثر من أهل التخصص والخبرة.
حتى المواطنون فإنّ شريحة اجتماعية واسعة منهم تبني أحكامها ومواقفها ورؤيتها للأمور على انطباعات فردية مسبقة، من دون أن تؤمن بوجود الاختصاص والخبراء، لذلك تنتشر نظريات المؤامرة ونرى سياسيين يتحدثون عن أحداث كبيرة بسطحية شديدة ومن منظور اختزالي، لأنّهم باختصار لا يقرأون إنتاجاً معرفياً رصيناً حول ما يحدث، لا ما ننتجه نحن ولا ما يكتبه الآخرون، فلدينا عقم كبير في القراءة ومشكلة جوهرية مع المعرفة!
إذا لم ننتج معرفة عميقة حول أنفسنا ومجتمعاتنا، وإذا كانت الأبحاث الأكاديمية في واد ونحن في وادٍ آخر، وإذا كنا مصرين على تجاهل قيمة البحث العلمي وأخلاقياته وأهميته، فسنبقى ندور في حلقات مفرغة؛ لا نفهم أنفسنا، ولا مجتمعاتنا، ولا ما يحدث حولنا، ولا العالم ككل!