كنّا فتياناً يافعين نجمع من «خرجيتنا» (مصروفنا اليومي) قروشاً معدودات حتى نوفِّر مبلغاً يكفي ثمن كتاب أو مجلة، لم تكن الأمور يسيرة ولا هينة، لا «الخرجية» حرزانة ولا المكتبات منتشرة. كان الزمان غير هذا الزمان: عجلة الحياة لا تجري على هذا النحو من السرعة، قرانا شبيهة بما تغنيه فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين لجهة بساطة العيش ومفردات الريف، ساحة الضيعة ودبكة الأفراح و»عونة» البناء والمؤونة التي نتقاسمها مع العصافير، الراديو أكثر شهرة وانتشاراً من التلفزيون، صوت صباح يصدح عالياً كجبال لبنان «عالضيعة يمة عالضيعة ودِّيني وبلا هالبيعة، جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ببيروت…». كانت بيروت بعيدة المنال، لم نكن بَعْدُ قد ضيعنا القلوب في هواها والأعمار على صفحات جرائدها وفي مقاهيها وشواطئ بحرها المفتوح على الدنيا.
حظنا السعيد أننا اكتشفنا هذه الدنيا من خلال الكتب والمجلات، كانت الصفحات شاشات ذاك الزمان، نصول بها ونجول، نصافح العالم على ورقها، نرسم بين سطورها أحلامنا المؤجلة. كانت «العربي» مجلةً «يكتبها العرب ليقرأها كل العرب» (كما يقول شعارها)، شهرية ثقافية مصورة. الصفة الأخيرة بيت القصيد، لم تكن الوحيدة شهرية وثقافية، لكنها الوحيدة مصورة بين هذا النوع من المجلات. فالصورة آنذاك وقفٌ على المجلات العاطفية، أما ثقافية ومصورة في آن واحد فهذا سَبَقٌ ما انتبه اليه سواها. العصر حينها ليس عصر صورة، ما كانت أدوات التصوير والطباعة على هذا النحو من اليُسر والحرفية والإتقان، مع ذلك كانت الاستطلاعات المصورة لأوسكار متري وسليم زبّال سفراً لنا وتجوالاً في البلدان والعواصم، نتعرف الى معالمها وطقوس عيشها وعاداتها وتقاليدها، كانت صورهما «سيلفي» البلاد والمدن، وتحقيقاتهما منافذ عبورنا الى عوالم اكتشفناها معهما قبل أن تدور الأيام دورتها وتغدو الصورة متيسرةً متاحةً للكبير والصغير سواء بسواء.
ليست فقط الصورة ما شدّنا الى «العربي» وجعلها رفيقتنا الدائمة، بل أيضاً موضوعاتها ومقالاتها وأقلام كُتَّابها الذين كانوا من قماشةً نفيسة نادرة، ولو أن الحبر يُقاس بالقيراط لَكَان معظمهم من عيار ٢٤: طه حسين، عباس محمود العقّاد، نجيب محفوظ، احسان عبد القدوس، نزار قباني، احسان عباس، عبد الهادي التازي، يوسف ادريس، صلاح عبد الصبور، أحمد زكي وأحمد بهاء الدين، وسواهم من مبدعين يمثلون تيارات وأهواء وأمزجة وأجيالاً فكرية وأدبية متعددة ومتنوعة، وكم ساهم هذا الثراء الإبداعي في تكوين مداميك وعينا وتشكيل ذائقة أجيالٍ متعاقبة من قراء «العربي» وعشّاقها على امتداد الوطن العربي.
قبل أيام شاعت أقاويل عن نيَّة وزارة الإعلام الكويتية إقفال «العربي» والتوقف عن إصدارها. نفى رئيسُ تحريرها عادل سالم العبد الجادر الاشاعات، مع ذلك اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي برثاء «العربي» وتدبيج السطور في محبتها والتعلق بها، ولئن دلَّ هذا الأمر على شيء فعلى المكانة التي تحتلها في وجدان العرب من محيطهم الى خليجهم، وحسناً تفعل الكويت بحفاظها عليها ومواصلة إصدارها، ليس فقط لمكانتها المذكورة بل لأنها جزء من صورة الكويت الجميلة، ومن دورها الثقافي الريادي الذي بلغ أوجه في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، ونأمل بأن تستعيده من تحت ركام الأزمات التي لم تعصف بالكويت وحدها بل بالعرب أجمعين.
نعرف، ثمة مصاعب وتحديات تواجه النشر الورقي، خصوصاً الثقافي منه، لكن حبذا لو تُطلِق «العربي» حملة اشتراكات لنبادر جميعاً الى الاشتراك بها دعماً وتشجيعاً وحرصاً على استمرارها ليس فقط كجزء من ذاكرتنا ووجداننا بل لأجل بقاء المنابر الثقافية حية في زمن تبدو فيه بلادنا للأسف أشبه بمقابر جماعية ولا خلاص بغير إعلاء شأنِ حروفٍ تضيء ظلام العقول.