تحذر فئات سياسية وفعاليات اقتصادية واجتماعية، ذات قاعدة مجتمعية ومهنية عريضة، من خطورة الأوضاع الإقليمية على الأردن، لاسيما وأن الوضع الداخلي يتطور بتسارع غير معهود؛ إذ يشهد الأردن عشرات الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، وتنشر وسائل الإعلام عشرات التظلمات والتحذيرات يوميا، كلها تحمل الصرخة نفسها، وتقول الشيء ذاته، وتكشف في ثناياها عن شعور المواطن بالمزيد من المخاطر والتوترات الداخلية التي لا يمكن الاستهانة بها أو التغاضي عنها بعد الآن. ولم تغير نتائج مؤتمر لندن للمانحين من هذه الأجواء، بل ربما زادتها تأكيداً ووضوحاً.
هذه المخاوف نابعة مما يراه المواطن الأردني من تغييرات جذرية في التحالفات الدولية والإقليمية واختلاط الأوراق، الأمر الذي دفع الإقليم برمته ليكون مركزاً رئيساً لصراع عالمي مدمر، ما يزال ينتج تغييرات ديموغرافية كاسحة، أصبحت تحظى بقبول واعتراف دوليين، يهيئان لها الفرص الاستمرار والبقاء. كما ما يزال ينتج الكثير من الدمار والقتل واستباحة كل ما هو إنساني. وتعدد أطراف النزاع ووزنها الدولي والإقليمي، كما تعدد وتداخل وتناقض مصالحها في بعض الأحيان، تصعّد من حدة النزاع وإمكانية إدامته.
الأردنيون يشعرون بقوة أننا قد نجد أنفسنا في يوم ما ضحايا تسويات سياسية إقليمية تتعلق بترتيبات الشرق الأوسط الجديد، الذي نراه يتبلور أمامنا. وهذه التسويات ليست جديدة على المنطقة، ولا على الأردن بالذات. فمنذ ما يزيد على القرن ومصير المنطقة يقرر من خارج الإقليم، وعلى طاولة لا يجلس حولها العرب المعنيون، بل القوى الدولية والإقليمية.
وحتى نضع الأمور في سياقها الواقعي، فإن علينا تفحص الأمور التالية وأخذها بالحسبان:
– محاولات روسيا الحلول مكان الاتحاد السوفيتي في السياسة والقرار الدوليين، وبالتالي إنهاء حقبة العالم أحادي القطبية، وإعادة التوازن إلى الساحة الدولية بإعادة روسيا لتكون القطب الثاني. ودخول روسيا إلى المنطقة بهذا الشكل المؤثر والقوي، وتحالفاتها الجديدة، هما انقلاب استراتيجي لا يمكن إغفاله. وسورية هي المدخل الرئيس لها لتحقيق هذا الهدف.
– الغاز هو أحد العوامل الاقتصادية. فهناك الغاز الروسي والقطري واحتياطات الغاز العملاقة في البحر الأبيض المتوسط قبالة السواحل السورية واللبنانية والفلسطينية وقبرص وإسرائيل. والتنافس على بيع الغاز لدول العالم، خاصة أوروبا، هو في صميم هذه المصالح. وتزداد أهمية الغاز، كونه ومصادر الطاقة المتجددة سيحلان محل النفط تدريجياً.
– لا يمكننا إغفال إيران؛ القوة الإقليمية الصاعدة، وتحالفها المثير للاستغراب والإعجاب في الوقت نفسه مع روسيا، والاعتراف الأميركي (من خلال الاتفاق النووي) بها قوة إقليمية أولى والتعامل معها على هذا الأساس. فهذا أمر جدير بالاهتمام الشديد، ويجب تقييمه بميزان دقيق بعيداً عن الأوهام. وفي الوقت الذي تتمدد فيه إيران خارج حدودها بوسائل وطرق متعددة، نرى المجتمعات العربية تتراجع قيمة وقيمياً، وتُرسم حدودها لتصبح دولاً صغيرة هامشية.
– تنازع الإثنيات الإقليمية، خاصة ما يتعلق منها بالقضية الكردية التي لم تأخذ مداها بعد، وارتباط هذه القضية بالقوى الإقليمية. وستكون هذه القضية بؤرة حامية بين هذه القوى: إسرائيل، وإيران، وتركيا، والعراق، وسورية، والأكراد أنفسهم. وستلعب القوى العظمى على وتر هذا النزاع العميق الجذور لتأمين مصالحها أو لضرب مصالح غيرها. وهناك عملية “العض على الأصابع” قائمة حالياً حول استقلال المنطقة الكردية العراقية وضم المنطقة الكردية من سورية إلى الدولة الكردية المنفصلة عن العراق، ومطالبة تركيا بالموصل في مقابل قبولها اعلان الاستقلال الكردي.
– استفراد إسرائيل بتنفيذ برامجها الاستيطانية في فلسطين المحتلة من دون حسيب أو رقيب. ولإسرائيل رأي أو مصلحة أو فعل في كل ما يجري في المنطقة، ولها اتصالات وارتباطات مع معظم الأطراف إن لم يكن جميعها. والسنوات الخمس المقبلة ستكون سنوات ذهبية لتنفيذ مخططها الشرير في الضفة الغربية والقدس وبشأن المسجد الأقصى، من دون حسيب أو رقيب. وإجراءات إسرائيل هذه تتعارض مع الأمن الوطني الأردني؛ لما سيتبعها من تداعيات على الساحة الإقليمية والسلم الأهلي في الأردن. وإذا ما تعارضت سياسات وبرامج وخطط إسرائيل مع السيادة الأردنية أو الأمن الوطني الأردني، فإنها ستختار حتما مصلحتها وتنفذ ما تريد.
في ضوء ذلك كله، يمكنني القول إن المكانة التي يحظى بها الأردن في الخارج ليست بديلا عن تعزيز الداخل، وتمكينه من الشعور بالأمن والاطمئنان للحاضر والمستقبل في الوقت ذاته. وأجد من واجبي ومهمتي الوطنية هنا التذكير بذلك مراراً وتكراراً.
تاريخياً، كان الأردن يرتكز في علاقاته الخارجية وحساباته السياسية على ثلاث قوى رئيسة هي: السعودية وأميركا والقضية الفلسطينية/ إسرائيل، كلٌ حسب ظرفه وحسب مصلحته. وهي قوى محصلة موقفها إبقاء رأس الأردن طافياً فوق الماء. وفي ضوء التداخلات الدولية والإقليمية، والاعتبارات الاقتصادية والسياسية والإثنية، التي ذكرتها أعلاه، فقد تتغير المعادلة الإقليمية وتؤثر على الأردن بشكل مباشر، وهناك دلائل تشير إلى هذه الإمكانية.
فالسعودية منهمكة بحرب استنزاف في اليمن، وتعد لحرب برية في سورية، وهي في اشتباك طائفي مع إيران. وإسرائيل ونتنياهو ينتظران اللحظة المناسبة للانقضاض على ما تبقى من القدس وفلسطين المحتلة وسكانهما. وإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين يكاد يصل إلى نقطة اللاعودة بالنسبة لإسرائيل. كما أن تثبيت وترسيخ “يهودية الدولة” يسير حسب ما هو مخطط له، مع ما يعنيه ذلك من تهديد للأمن الوطني الأردني. ولا يمكن لعاقل أن يعتمد أو يصدق التزامات إسرائيل في حماية الأمن الوطني الأردني. أما أميركا، فحدث ولا حرج عن دعمها للمصالح الإسرائيلية وعدوانها، وعدم ثباتها على مواقفها، وتذبذب هذه الموقف بشأن سورية خير دليل على ذلك. وكلما تراجع الوزن السياسي العربي في ميزان العلاقات الدولية، ازدادت إمكانية واحتمال التمادي في هذا التآمر.
أمام هذا المشهد الإقليمي والدولي المعقد والمتغير كالرمال المتحركة، فإنه لم يعد مقبولاً ولا حتى مفهوماً تجاهل الدولة واقع الحال الداخلي، الذي تؤكده الوقائع اليومية الطاحنة في الإقليم أو ما يعبر عنه المواطنون وكل تجليات المجتمع.
وبالتالي، فإن لم نكن مستعدين لحماية أمننا كمواطنين وكمؤسسات مدنية وأمنية، فإن قوى الخارج وتحالفاتنا معها لن تحمينا بالقدر الذي نتوقعه، وقد تتركنا في مواجهة مصائر مجهولة ترسم لنا مستقبلنا بسوء أو حسن نية. ويحضرني في هذا السياق موقف بعض “الأصدقاء” في أحداث السبعينيات عندما ظنوا أن ميزان القوى الداخلي انقلب لصالح القوى والمنظمات المسلحة في مقابل القوات المسلحة الأردنية. والموقف الأميركي الأخير من قوى المعارضة السورية ومباحثات جنيف، مثال آخر.
الأجهزة الأمنية تقوم بواجبها خير القيام. وهي صمام الأمان الذي يحمي الوطن. ودورها وكفاءتها يحظيان بتأييد ودعم جميع الأردنيين. لكن في المقابل، يجب أن تكون كفاءة الجهاز السياسي بكفاءة الجهاز الأمني، بأن يتمتع الجهاز السياسي والإداري بالكفاءة في إدارة شؤون الدولة. وكما أن الأمن في جانبه الأمني متحقق إلى حد كبير، فإنه يجب أن يتحقق الأمن الوطني بالقدر والقوة والكفاءة ذاتها، وإلا فإن الأمن بمعناه الشامل سيتعرض لهزات قوية وسريعة.
المشكلة في كل تفاصيل هذا المشهد الدولي والإقليمي، أن الدولة تمضي في تجاهل حقائق الساحة المحلية وانعكاساتها الاستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى.
لقد تغيرت الخريطة الديموغرافية في الأردن بشكل كبير وبسرعة، وبالتالي أصبح هناك وضع اجتماعي سياسي واقتصادي وإنساني مختلف كثيراً عن الماضي، وأصبح هناك اعتبار “المكون السوري” واهتمام الغرب بالعناية به وتمكينه بعد أن بحت أصواتنا ونحن نطالب العالم بدعم الأردن مالياً واقتصادياً. فالمجتمع يئن تحت ظروف معيشية صعبة، والشباب هم أكثر الشرائح الاجتماعية إحباطاً وتأثراً، وهم حطب التقصير و الإهمال الحكوميين. إذ إن البطالة في أعلى نسبها، وطلبات الهجرة في أعلى أرقامها، وتعاطي المخدرات والعنف الجامعي بين الشباب على رأس القائمة.
كذلك، فإن أهمية دول الخليج المنتجة للنفط في تراجع بسبب الإنفاق العسكري المذهل وتدني دخولها بسبب انهيار أسعار النفط. وسوف يعكس ذلك نفسه بالضرورة على الأردن وعلى المغتربين وعلى تحويلاتهم.
أليست هذه الخيارات الصعبة (إن لم تكن السيئة) التي نواجهها تتطلب رؤية جديدة تساعد الأردن على تجاوز هذه الحالة؟
نحن بحاجة ماسة إلى التفكير خارج الصندوق، وبحاجة أكثر إلى توافق وطني يجمع فئات المجتمع السياسية والاجتماعية ويشعرها بأنها شريكة في القرار. هذه اللحظات التاريخية تحتاج معالجات سياسية واجتماعية عميقة ومستدامة، كما أنها تحتاج مرجعيات مؤسسية ودستورية ذات قدرة على التعامل مع هذه الخيارات بجدية ومسؤولية. وهي أمور تقع ضمن مسؤولية مجلس الأمة وحقه في المساءلة. كما بحاجة إلى قيادة حكومية قوية ذات رؤية وجرأة. عندها يشعر المواطن أنه شريك في صناعة القرار، وبالتالي في تحمل المسؤولية.
المماطلة التي نشهدها غير مقبولة إطلاقاً. كذلك، فإن ادعاءات البعض بأن البدائل غير متوفرة هو أمر يجافي الحقيقة، ولا يجوز الاختباء وراء هذه المقولة. وحتى لو كان الأمر كذلك، فنحن دولة ولدينا الوزارات والمؤسسات والعقول التي تستطيع أن تضع البدائل والحلول. وقد حددت في مقال سابق العناصر الرئيسة التي يمكن أن نبدأ منها. أولها، الاعتراف بوجود هذا الواقع. وثانيها، توفر الإرادة للتغيير، وغيرهما.
نحـن دولة ذات دستورعريق، لم تنقطع الحياة النيابية فيها إلا في ظروف طارئة. مع ذلك، مانزال غير مستقرين على قانون انتخاب.
هذه ليست نظرة سوداوية أو ترهيبية، بل هي نظرة واقعية تثبت الأيام صحتها. ودراسة التاريخ ومسيرة “الربيع العربي” وما أدت إليه، تصب في صحة هذه المخاوف. وأعتقد جازماً أن الغالبية تشاركني الرأي. فإعادة بناء ما انهدم، أو إحداث التغيير، يحتاجان إلى الوقت الكافي، ونحن ليس لدينا الوقت. فالأحداث تسير بسرعة وتسبقنا. ومن يرغب في الحفاظ على الوضع القائم باعتبار أن “ليس بالإمكان أبدع مما كان” مخطئ تماما ومضر بمصلحة الوطن والمستقبل.
نعم، مخاوف الأردنيين مشروعة. ومن حقنا أن نطالب بإزالة بعض منها على الأقل. والشعب الذي حمى الأمن الوطني طيلة حراكات “الربيع العربي” بوعيه وصبره، يستحق أن يؤتمن.
* رئيس الوزراء الأسبق