ليس ثمة شيء كثير يكتب عن محمد حسنين هيكل بعد مماته؛ مدحا وذما، ردا وقدحا، فقد كتب ونشر كل ذلك في حياته الطويلة.
أظن أن هيكل في مرحلة ما من الزمن الماضي كان أكثر شهرة من سيده الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي دان له بالوفاء والولاء حتى بعد وفاته.
اتُهم بتزوير الحقائق، وتلفيق الروايات، وتطويع الأحداث خدمة لعبدالناصر وعهده. ربما يكون فعل ذلك، لكن وفاء هيكل للرئيس المصري الراحل كان أمرا فريدا، خاصة في مصر حيث يتلون الإعلاميون والساسة مع مختلف العهود والرؤساء.
ولم ينل الرجل شهرته بسبب قربه من عبدالناصر، ووجوده الدائم في غرفة الأسرار؛ كثيرون نالوا فرصا مثله، لكنهم لم يلمعوا. هيكل كان أستاذا في المهنة، كان صحفيا يجمع في شخصيته شروط التميز والتفوق. وهذا ما منحه المكانة الرفيعة والشهرة الواسعة. مقاله في الإهرام كان أهم من خطابات بعض الزعماء.
كان بوسع هيكل أن يداهن السادات، ويسترضي مبارك، ليظل كما كان في دائرة القرار. بيد أنه “وفي ذلك قدر من انتهازية الصحفي” أدرك أنه سيبقى في دائرة الشهرة وتحت الأضواء أيا كان موقعه؛ مع الحاكم أو ضده.
خزان المعلومات والأسرار الذي حمله معه بعد أن غادر “السرايا” كان كفيلا بأن يبقيه حيا بعد مماته.
وكان رهانه في محله؛ فقد كسب من وراء مواقفه المعارضة لاتفاقية كامب ديفيد وسياسات مبارك، شعبية واسعة في العالم، مكنته من احتكار لقب “الأستاذ” للأبد.
قناة “الجزيرة” القطرية كانت خير معين لهيكل في العقد الأخير؛ منحته فرصة الإطلالة الطويلة على ملايين المشاهدين العرب من أجيال لم تعاصر ذروة حضوره الصحفي. كل ما كتبه وقاله في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، قدمه للجمهور صوتا وصورة حية. وحافظ في إطلالته التلفزيونية على هويته الجدلية التي كان عليها منذ أن لمع نجمه.
ثورة 25 يناير أحيت إرث هيكل. لم يكن أحد ليتصور أن الرجل التسعيني الذي يئس من مصر في عهد مبارك، سيشهد سقوط النظام في ثورة لم يعرفها قاموس الحياة السياسية المصرية والعربية من قبل.
كانت ثورة الجيل الجديد من الشباب المصريين، تريد القطع مع الماضي بكل ما فيه. لكنها لم تستطع تجاوز حكمة الرجل العجوز، فكان حاضرا منذ يومها الأول، وكأنه في العشرينيات من عمره.
ساجل الثورة وشبابها؛ عارض وأيد ووجه ونصح. ثم في نهاية المطاف اختار خندق الجيش المصري.
هل فعل الصواب؟
انقسم المصريون والعرب من جديد حول هيكل ومواقفه. في نظر مؤيدي الرئيس محمد مرسي، كان هيكل خائنا للثورة وتضحياتها. وعند مؤيدي الجيش والرئيس عبدالفتاح السيسي، كان رمزا للوطنية المصرية المنحازة في طبيعتها للمؤسسة العسكرية.
في آخر أيامه بدا متذمرا وناقدا لسلوك نظام السيسي، بعد أشهر عسل قضياها معا.
سيقولون عنه الكثير في هذه الأيام؛ نقدا وتجريحا، مدحا وتبجيلا. وذاك يجوز بحق هيكل السياسي والمؤرخ، لكن هيكل الصحفي لن يتكرر. كان أستاذا بحق.