فجأة، تحوّل الحديث عن مؤتمر لندن لدعم اللاجئين السوريين، وما نجم عنه من مخرجات لمساعدة الأردن على القيام بهذه المهمّات المرهقة، إلى تغليب هاجس أو بعبارة أدقّ “فوبيا” ما يسمى “توطين اللاجئين السوريين” في الأردن.
باب “فوبيا التوطين” (التي تجد دائماً آذاناً صاغية لدى شريحة اجتماعية واسعة، بذريعة الخشية على هوية الدولة ومحدودية الموارد وغيرها من إشكاليات جوهرية)، انفتح بسبب انتقال الخطاب الأردني في موضوع الأشقاء السوريين من المنظور الطارئ للمساعدات؛ والمرتبط بتفكير قصير المدى ومؤقت، إلى منظور استراتيجي، يتأسس على المنظور التنموي والخدماتي والبنية التحتية في التعامل مع هذا الملف.
الاعتبارات التي وقفت وراء تحول الخطاب الأردني صحيحة 100 % ولا غبار عليها أبداً، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بخطة دولية ومؤامرة كونية لتوطين اللاجئين السوريين في الأردن، وإنما مبنية على إعادة التفكير من خلال الدراسات الدولية المقارنة، سواء للبنك الدولي أو الجامعات المعروفة المتخصصة بهذا الشأن، والتي تؤكد أنّ خبرة الهجرات الدولية تشير إلى أنّ معدل إقامة اللاجئين تصل قرابة 17 عاماً، وأنّ حوالي نصفهم لا يعودون إلى ديارهم بالضرورة.
مثل هذه الدراسات ساعدت الأردن كثيراً في إعادة صوغ روايته حول تأثير اللاجئين على الاقتصاد الوطني، ومطالبة العالم بأخذ هذه الأبعاد بعين الاعتبار. فهناك كلفة باهظة على البنية التحتية، والمياه والتعليم والخدمات، والأهمّ من ذلك محدودية فرص العمل وعدم قدرة الدولة على توفير وظائف وضعف فرص الاستثمار.
بالطبع، الأردن يتمنّى أن يعود الأشقاء اللاجئون إلى بلادهم اليوم قبل الغد. وهناك محاولات سبق وأن تحدّثنا عنها من أجل إقامة مخيمات آمنة لهم في محافظة درعا، لكنّها فشلت نتيجة انقلاب الأوضاع في الجنوب والتدخل الروسي، وتحديداً بعد اغتيال زهران علوش؛ إذ أوقف المسؤولون هنا تلك المخططات كافّة.
ومن المعروف أنّ نسبة الأشقاء السوريين في المخيمات محدودة جداً، لا تتجاوز 12 %، بينما الأغلبية العظمى موجودون في محافظات المملكة المختلفة، في شقق مستأجرة، ويعملون في القطاع الخاص، ويستفيدون من فرص التعليم الحكومي والخدمات المختلفة. بمعنى أنّ الكلفة دفعها الأردن مسبقاً، لكنّه اليوم نجح في إعادة تركيب خطابه وروايته، والحصول على جزء من المساعدات المستحقة لهذا الدور الذي يقوم به أصلاً.
بالعودة إلى فزّاعة التوطين والوطن البديل والعقلية المسكونة بالمؤامرات، فإن مشكلة مثل هذا الخطاب أنّه يبالغ كثيراً في مخاوفه، وبالأحرى أوهامه، حتى يصبح الحديث عن الخطورة الحقيقية في هذا الموضوع أمراً ممجوجاً لدى الرأي العام ومجالاً للسخرية!
هل فعلاً يصدّق عاقل يقرأ ويكتب أنّ الأردن من الممكن أن يوطّن الأشقاء اللاجئين السوريين بالمعنى السياسي المطروح في هذه العقلية؛ أي أن يصبحوا مواطنين أردنيين؟! ونحن نتحدث هنا عن قرابة 650 ألف شخص أغلبهم مسجلون في المنظمات الأممية، ويبحثون عن حياة أفضل في دول أوروبا أو الخليج!
هل يفكّر “مطبخ القرار” أن يمنحهم الجنسية الأردنية والحقوق السياسية، مثل التصويت والانتخاب، فضلاً عن حقوق أخرى؟!
إذا كنّا إلى الآن لم نمنح أبناء الأردنيات المتزوجات من غير أردنيين “مزايا خدماتية” بسيطة، ونماطل ونعقّد التعامل مع الغزّيين، والحال نفسها مع الأردنيين الذين يحملون البطاقات الخضراء، الذين يحقّ لهم حق الإقامة، وهؤلاء موجودون في الأردن منذ قرابة نصف قرن، وبالرغم من كل الضغوط، وضعت مؤسسات الدولة أقدامها بالحائط ورفضت هذا الأمر، فهل من السهولة أن نأتي اليوم و”نوطّن” الأشقاء اللاجئين السوريين؟!
لماذا، إذن، حرق الأعصاب وتهييج الرأي العام وتخويفه من شيء غير منطقي ولا واقعي؟!