في زيارته للمفرق يوم الأربعاء 11/2 أكد جلالة الملك عبد الله الثاني على مسألة بالغة الأهمية وهي: “أن مؤتمر المانحين في لندن، وضع تعهدات على الدول المانحة بالمساعدة، ولكن ذلك لا يتحقق إلا إذا قام الجانب الأردني بما يترتب عليه من إعداد للمشاريع، وتنظيم للعمل وقدرة على التنفيذ. وفي خلاف ذلك سوف تضيع الفرص التي فتحها المؤتمر”. ورغم نغمة التفاؤل في حديث الملك في المفرق، إلا أن الواقع يدل على أن أمامنا الشيء الكثير لكي ننجزه في بلدنا ،آخذين بعين الإعتبار، الأجواء الإقليمية والدولية المعقدة والمتفجرة .
ففي سوريا، و رغم كل المؤتمرات والجهود السياسية، تزداد الحرب وحشية وضراوة وقسوة إلى الدرجة التي أصبح قتل المدنيين بالعشرات خبراً يوميا عاديا .هذا في الوقت الذي غدت المأساة السورية أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. إن كلا من الدورين الروسي والإيراني واضحاً كل الوضوح، وهو أولا تثبيت حكم الأسد ونظامه بأي ثمن، وثانيا القضاء على المعارضة أياً كانت ومهما كانت الضحايا ، وثالثا إعادة توزيع السكان على أسس عرقية و طائفية ، ورابعا تثبيت الوجود الروسي والإيراني على شواطئ البحر المتوسط، و خامسا تجميع أوراق للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا في مواقع و قضايا أخرى تمس المصالح الروسية و الإيرانية،و سادسا العودة بالنظام إلى نمط الحكم الشمولي الهش كما كانت عليه السلطة قبل الثورة السورية .
أما الموقف الأمريكي ففيه الكثير من الغموض و الإرتباك والذي لا ينجلي تماما إلا إذا تعرفنا على الموقف الإسرائيلي.فإسرائيل تعتبر نفسها منذ سنوات أربع في موسم حصاد وفير بأقل التكاليف .فهي تقضم الأراضي الفلسطينية بتواصل، وسط انقسام فلسطيني غير مسئول و غير مبرر، أوقع الأذى بالقضية الفلسطينية بشكل غير مسبوق. و الدول العربية الكبيرة تتفتت و تنهار الواحدة بعد أخرى.و الجماعات الإسلامية على مختلف تكويناتها تقدم الخدمة المجانية حين تساهم في إيذاء بلدانها و تساعد على تقسيمها ، لتغليبها المعتقدات والجماعات و الحزبيات على الوطنية .و التفاهم التركي الإسرائيلي يتحرك بهدوء، والتنسيق بين إسرائيل وروسيا ، والتنسيق غير المباشر مع إيران وحزب الله أيضا على أفضل حال. أما الدور الكبير الذي تقوم به إسرائيل، إضافة إلى تمويل و دعم سري للجماعات المتطرفة، فيتمثل في إعادة النموذج العراقي في سوريا،و لكن بأدوات مختلفة، من خلال ثني الإدارة الأمريكية ،المترددة بطبيعتها، عن اتخاذ موقف حاسم في سوريا ابتداء من دعم المعارضة وانتهاء بإنشاء مناطق آمنة في داخل سوريا للاجئين والنازحين. إن الخلخلة السكانية وإعادة توزيع السكان والتدمير الذي يقع في سوريا واحتمالات تفتت الدولة إلى دويلات طائفية هو الهدف الاستراتيجي لإسرائيل، وهو يتحقق دون كلفة تذكر. اللهم إلا تمويل هذه المجموعة أو تلك حتى تبقى النار مشتعلة في كل مكان.و كل ذلك من شأنه أن يحمل مخاطر هائلة على المنطقة.
وبالنسبة لنا فصحيح ما قاله الملك” أن حدودنا الشمالية قوية وآمنة”، ولكن النتائج المترتبة على انهيار الأوضاع في سوريا بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام، وتدفق اللاجئين إلى بلادنا بهذه الأرقام الضخمة، تترتب عليها نتائج صعبة للغاية. وهذا يعني أن علينا الوعي بأننا أمام مرحلة جديدة و خاصة في الأبعاد الإقتصادية الإجتماعية و السياسية. الأمر الذي يجعل التعاون بين جميع الأطراف من حكومة إلى برلمان إلى قطاعات اقتصادية إلى منظمات مجتمع مدني إلى أكاديميا إلى أحزاب من أجل مواجهة الموقف ضرورة حتمية وملحة.إن المنظمات الدولية و كذلك مؤتمر لندن يضغطون باتجاه توظيف القوى العاملة السورية و إتاحة الفرصة للاجئين للتعليم والخدمات الصحية و المعيشة المستقرة، ولا يستطيع الأردن أن يفعل عكس ذلك، نظرا للنتائج السلبية الخطيرة التي يمكن أن يتمخض عنها الجهل والبطالة والمرض بين مئات الآلاف من الناس من مختلف الأعمار والخلفيات.إضافة إلى الموقف الوطني و العروبي والإنساني المميز للأردن.
إن مواجهة هذه المعضلة المعقدة تتطلب تفكيرا جديدا،و الأمل أن تكون “المفرق” نقطة انطلاق لرؤية إستراتيجية واضحة ،و ربما في الإطار التالي: أولا: إفتراض استمرار الأزمة لفترة طويلة و بقاء ما يقرب من 50% منهم بصورة دائمة. ثانيا: أن المشاريع التي يقع الإختيار عليها للتنفيذ ينبغي أن تكون قادرة على الإستمرار و التنامي أفقيا و عموديا و ليس مجرد مشاريع مؤقتة أو قصيرة الأجل. ثالثا: التركيز الكامل على المشاريع الإنتاجية لتوليد فرص العمل . رابعا:تحديد الشركاء في المشاريع و مصادر التمويل المحلي والأجنبي الرسمي و الأهلي و العمل على إشراك العاملين في تمويل حصص مناسبة من خلال جمعيات تعاونية أو صناديق يتم إنشاؤها لهذه الغاية .خامسا: إن التركيز في المرحلة الأولى ينبغي أن يتوجه نحو المشاريع الكبرى الأساسية وفي مقدمتها خطوط النفط والغاز مع السعودية وقطر والعراق ،ومشاريع المياه وفي مقدمتها الحصاد المائي الشامل وتدوير المياه و تحليتها بالطاقة الشمسية.سادسا: مشاريع إصلاح الأراضي لغايات الزراعة بما في ذلك التربية الحيوانية و الصناعات الكثيفة الإستعمال للأيدي العاملة و تلك المنبثقة عن القطاع السياحي. سابعا : إنشاء صندوق خاص لدعم الأيدي العاملة الوطنية و تمويل متطلبات التمكين المادي و المعرفي و المهني لها حتى تتمكن من المنافسة مع الأيدي العاملة الوافدة .
إضافة إلى الأمن الذي يقوم به الجيش و تقوم به أجهزتنا الوطنية المختصة بحكمة واقتدار يستحق كل التأييد و الثناء، فإننا أمام متطلبات بالغة التعقيد وتستدعي الكثير من الجهد والوقت الذي ينبغي آن يشارك فيه اكبر عدد من الخبراء ربما من خلال “هيئة استشارية متخصصة” تقتنع الدولة بأهمية إنشائها. وكما تتطلب إدارة حكومية أكثر مرونة واستجابة على مستوى الصفوف المختلفة للإدارة، وليس فقط على مستوى الوزراء. و بدون ذلك لا يمكن حل الكثير من المشكلات التي ستحدد المسار المستقبلي للمرحلة القادمة وفي مقدمتها فرص العمل والغذاء و التعليم التي تشكل عصب الأمن الاجتماعي.
أفكار الملك….. من لندن إلى المفرق/ د.ابراهيم بدران
7
المقالة السابقة