ليس القارئ مجرد متلقٍ لنصٍّ يكتبه سواه، إنه شريكٌ فاعلٌ في هذا النص، يُضفي عليه من عنده ويمنحه معانيَ وأبعاداً قد لا تكون في ذهن صاحبه أصلاً. تتعدد المعاني والأبعاد بتعدد القرّاء، لا غرابة في ذلك ولا استهجان. القارئ ليس واحداً، كلُّ قارئٍ يختلف عن سواه باختلاف شخصه ووعيه وثقافته ومعرفته وموقفه من الوجود والكائنات، وكلُّ قارئٍ يقرأ النصَّ محمَّلاً بكلِّ ما ذكرناه. ما من قارئٍ صافٍ مئة في المئة، أي أنه يقارب النصَّ الذي بين يديه متحرراً من المكونات التي تُشكِّل شخصيته ومنطلقاته، حتى لو شاء فإنه لن يستطيع. التجرُّد الكليُّ الخالص من الزوائد والشوائب والمؤثرات ليس من هذا العالم، لذا يغدو النصُّ، كلّ نصٍّ، نتاج طرفين: المُرسِل والمتلقي.
أَيَعني ما تَقَدَّم أن يضعَ الكاتبُ في ذهنه شركاءَ له في صناعة النصِّ؟
ولادةُ النصِّ شيء ونشرُهُ على الملأ شيءٌ آخر مختلف تماماً. عملية الكتابة تشبه إلى حدٍّ بعيد حالة الحمل لدى الأنثى، يتشكَّل النصُّ بين يديّ صاحبه مثلما يتكوَّن الجنين في رحم أمه. إذاً هي حالة ذاتية جداً لا شريك فيها سوى الملقِّحات، أي العوامل والمؤثرات الروحية والفكرية والشعورية التي تضافرت ودفعت الكاتب إلى كتابةِ ما كَتَب. لحظةُ الكتابة نفسها تشبه الولادة الذاتية، الولادة من دون قابلة أو طبيب، يعيش الكاتب مخاض نصِّه بنفسه ومفرده، أما لحظة خروج النصِّ إلى العلن فَلَهَا أن تشبه فرح الأسرة بالمولود الجديد. من هنا فصاعداً ينطلق النصُّ إلى فضاء حريته، لا يعود مُلْكاً لصاحبه، بل أيضاً لشركاءَ آخرين لا يعرفهم ولا يعرفونه إلا اسماً على غلاف كتاب. شركاءٌ لا ينبغي لهم الحضور في ذهن الكاتب إلا بعد فراغه من الكتابة، حضورهم أثناءها يجعلها شبيهة بما يطلبه المستمعون، و»الكاتب ليس خادماً عند القارئ» وِفق إبراهيم نصرالله.
حين نفتح كتاباً ونبدأ رحلتنا مع كلماته وسطوره لا نضعُ أنفسنا مكان الكاتب ولا نستحضر الظروف التي أحاطت بولادة النصِّ، بل ندخلُ عالم الكتاب نفسه، نحيا بين غلافيه طوال مدة القراءة، نتفاعل مع طروحاته وأحداثه، ونضفي عليه من «عندياتنا». يحدث أن يمنحَ قارئٌ ما النصَّ الذي بين يديه معاني لم تخطر في بال الكاتب بتاتاً، يمكنها أن تكون أكثر عمقاً وأبعد مدى، مثلما يمكنها أن تكون أقلّ، ليست المسألة مبارزة أو مفاضلة بين الكاتب وقارئه. كلُّ نصٍّ إبداعيٍّ حمَّالُ أوجه، وللقارئ اختيار الوجه الذي يناسب هواه ويتوافق مع مستواه المعرفي وذائقته الفنية. هذا مهم جداً لكن الأهم هو القارئ نفسه، ضرورته من ضرورة الكاتب، لا معنى للمرسِل بلا متلقٍ. حتى الرسالة التي نكتبها ونضعها في قارورة ونرميها في بحر نتوقع ونتمنى أن يحظى بها أحدٌ ما على شاطئ ما فلا تظلّ تائهة على متن الأمواج.
حين ينشر الكاتب نصَّاً على الملأ هذا يعني أنه يرسله لقارئٍ ما، «لأن الكتاب الُملقى على الرفِّ أشبه بالجسم الميت تدبُّ فيه الحياة إذا ما امتدت إليـه يـَدُ القارئ» يقول جان بول سارتر. بهذا المعنى الذي يذهب إليه فيلسوف بمكانة سارتر يكاد القارئ يفوقُ بأهميته الكاتب لأنه مانحُ الحياة لما يكتبه الكاتب.
لا يستقيم كلام على القارئ من دون المرور على راهن القراءة عند العرب، راهن مفجع مفزع موجع. في استطلاعات «اليونسكو» يقرأ الأوروبي خمسة وثلاثين كتاباً في السنة، فيما يقرأ الإسرائيلي نحو أربعين كتاباً خلال الفترة نفسها مقابل ربع صفحة للعربي، أما بحساب الدقائق فيقرأ كلٌّ من الأوروبي والأميركي مئتي دقيقة في اليوم مقابل ست دقائق للعربي. ثم نسأل لماذا تقدّم غيرنا وتخلفنا؟
إزاء الحال المزرية لواقع القراءة في بلادنا يغدو «إيجاد» القارئ مسألة ملِّحة وضرورية. أن تصير قارئاً ليست مسألة تلقائية، يلزمك مناخ مشجع وبيئة حاضنة والتعوُّد على أن يكون الكتاب (ورقي أو إلكتروني) جزءاً من حياتك ويومياتك، هذه مهمة ترقى إلى مصاف المهام الوطنية والقومية، إذ لو كانت أمة اقرأ تقرأ لكنا تجنبنا كثيراً من الكوارث التي حلَّت بِنَا، ووضعنا سداً أمام الخراب العميم الذي أصاب حاضرنا ويهدد مستقبلنا. حين نترك الكتاب زينةً على الرفّ فإننا لا نغلق دفتيه على الحياة الدائرة على صفحاته، بل أيضاً على جزء من حياتنا.
القراءة حياة، والقارئ الحقيقي يحظى بِعَيْش أكثر من حياة.