في النظر إلى الربيع العربي على أنه الوعي المصاحب للحوسبة والتشبيك، يمكن التأمل في أبعاد ورموز جديدة للصراع الاجتماعي والسياسي، وستظلّ دماء وموارد تهدر حتى يتم التفاهم عليها بين أطراف الصراع وإعادة إدارته وتنظيمه وفق قواعد جديدة لم تؤلف بعد. فالعالم في تحوّله من «الهرمية» إلى الشبكية، ينشئ مساواة مطلقة بين جميع الأطراف والطبقات. لم يعد العالم في تشكّله وعلاقاته هرماً قائماً على التراتبية الراسخة والوعي الناشئ عن ذلك، ولم يعد النضال والصراع بطبيعة الحال مستمدَّين من طبيعة الهرم وأسراره، لكنهما اليوم شبكة تتيح لكل من يملك الوصول إليها فرصة مساوية في المعرفة والتواصل والتبادل والتأثير.
هكذا لم تعد مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التابعة للسلطة السياسية مورداً للتحكم والتأثير والمعرفة والبلاغات والأخبار، ولم تعد ثمة حاجة الى الثوار والانقلابيين لكي يسيطروا على الإذاعة ويبثّوا البلاغ الرقم 1، ولم تعد السلطة تحتاج إلى المبالغة في حراسة مبنى الإذاعة، فلم تعد تحتاج إليها ابتداء، فكل مواطن يستطيع المعرفة وبثّ المعرفة وتبادلها بالنص والصوت والصورة وبأي لغة، ويوصلها إلى أي مكان وفي أي لغة.
ما يحدث، أن مساواة مطلقة حصلت بين الناس في ذلك، لكن النخب المهيمنة تحسب نفسها تحتكر المعرفة وتحدّد من يعرفها وماذا يجب أن يعرف.
«من أنتم؟»، صرخ القذافي مخاطباً شعبه وهو يحسب الدنيا ما زالت هرماً وأنه يطلّ من قمة الهرم على الناس يخاطبهم ويخطب فيهم ويعلمهم، وفي المقابل قال زين العابدين بن علي «الآن فهمتكم»، معبراً عن إدراكه أن العالم تغير وأن قواعد الصراع تغيرت. وفي الفرق بين العبارتين كان الفرق في الاستجابة والردّ على الغاضبين الثائرين.
وبالطبع، فإن الشبكة لم تغير الطبقات والسياسات نفسها، لكنها تغير في علاقاتها وإدارة هذه العلاقات وتنظيمها، فما يجب أن تدركه السلطات والنخب المتحالفة والمهيمنة في مرحلة الشبكية أنها لم تعد قادرة على احتكار المعلومات، لقد خسرت النخبة هذا المورد، وصار شعبياً ومشاعاً، ويجب أن تدير علاقاتها على أساس هذه الحقيقة الجديدة، والمجتمعات والشعوب يجب أن تدرك حدود هذا المورد الجديد وفرصه وتحدياته، هو مورد يمنحها بالتأكيد قوة جديدة، لكن ذلك لا يحدث تلقائياً. وما يمكن قوله من ملاحظة مواقع الشبكة والتواصل الاجتماعي، أنه مورد يكاد يكون مهدوراً، ولم ينشئ بعد شبكة فاعلة في التجمّع والتأثير، وكان سلوك الجماهير في الربيع العربي تعبيراً عن الشعور بالظلم، لكنها لم تكشف بعد عن إدراكها العدل الذي تريده وتسعى إليه، أو لعلها لم تلتقط ما وصفه وليم جيمس بأن أعظم اكتشاف لهذا الجيل، والذي لا يقلّ في أهميته عن الثورة العلمية، أن في مقدور الناس تغيير حياتهم من خلال تغيير مواقفهم الذهنية. وقد أنشأت الهرمية وعياً بالذات لم يعد موجوداً، ويفترض أن تنشئ الشبكية وعياً جديداً يبدو أنه لم يدرك بعد.
والحال أن «من أنتم؟» هي كلمة السر التي يدور حولها التاريخ، وما فعله القذافي هو التذكير بهذه القاعدة في العلاقات والحكم، فالسياسة العامة على مدى التاريخ والجغرافيا هي التذكير الدائم للمواطنين بطبقاتهم وفئاتهم بوضعهم. وهذا يفسّر التشريعات والموازنات والإنفاق العام والسياسات الضريبية والتعليمية والخدماتية والثقافة والفنون التي تنشرها المؤسسات الرسمية.
لم تكن المدارس والجامعات والمؤسسات والخدمات والأسواق في مستواها وجودتها ومواصفاتها سوى تعبير عن مقولة «من أنتم؟»،
وحتى نخرج من هذا الصراع الصفري الذي لم تفهم فيه بعد أطراف الصراع بعضها بعضاً، ولم تدرك فيه كل فئة وضعها الجديد، وتحاول فيه كل فئة أن تلغي الأخرى، وقبل أن نهلك جميعاً، يجب أن تصل الأوليغارشيا إلى ما وصل إليه زين العابدين بن علي فتفهّم الناس كما هم وكما صاروا، وأن تفهم المجتمعات بواقعية ما تريده وما يمكنها التفاهم عليه مع النخب والسلطات.