الجدار الأسمنتي وحوله خندق يطوق بغداد من أقصاها إلى أقصاها، هو لاشك فكرة سيئة ارتبطت بذكريات إنسانية مخجلة لاحقت من ابتكرها أو عمل بها العار والشنار. في الماضي وحتى الحاضر استخدم الجدار لأغراض الفصل العنصري وعلى وجه الخصوص، في جنوب إفريقيا، وفي برلين، واليوم على أرض فلسطين الحبيبة… إلخ. أما في حالة العراق فقد عرفه العراقيون لأول مرة بعد الغزو عام 2003 حين نصبت جدرانا أسمنتية في بغداد وفي غيرها من المحافظات قطعت أوصال المدن والقرى وشوهت مناظرها وأوجدت لأول مرة ثقافة الجيتو في المجتمع العراقي الواحد. التاريخ يعيد نفسه، فقد نصب الجدار الأسمنتي بعد الغزو وبات قرينا للخطط الأمنية، واليوم يعاد العمل بالأسمنت باعتباره جزءا من ممارسة أمنية شائعة -رغم فشلها- ما يعني أن العراق لم يتحرر حتى اللحظة من تداعيات ذلك الغزو المشؤوم. بالطبع ما كان هناك من ضير لاستعادة التجربة وتنفيذها، بل ما كان يحق لأحد أن يرفع الكارت الأحمر بالرفض والاستنكار لو أن التجربة كانت ناجحة أو أنها حققت أغراضها، وهي لم تكن كذلك، والدليل تفاقم الوضع الأمني الذي نحن عليه اليوم.
مضامين هذا القرار عديدة، أولها أن تكرار الاعتماد على وسائل عتيقة فاشلة هو ليس فقط إقرار بفشل إدارة الملف الأمني على مدى ثلاث عشرة سنة، بل هو مؤشر على عقم الثقافة الأمنية وجدبها في ابتكار الجديد، طالما أن التجربة الماضية كانت فاشلة أمنيا فنحن مقبلون على مرحلة فاشلة جديدة بكل ما فيها من خسائر وتضحيات. الإرهاب لا يستهدف بغداد فحسب، بل هو يناور ويضرب أينما توافرت له فرصة. إذًا ماذا يعني حماية بغداد وترك سائر العراق إن لم يكن المقصود هو حماية المنطقة الخضراء التي باتت بسبب عظم التحدي الأمني بحاجة لخط دفاعي أوسع وأشمل؟. الجدار الأسمنتي يوحي بأن من داخل بغداد بات آمنا، وأن جميع القاطنين داخل السور هم مسالمون وأن المشكلة تكمن في المناطق خارج بغداد، وهو تقدير خاطئ والدليل سعة انتشار المسلحين، وأغلبهم متطرفون ميالون للعنف والإرهاب، هم من يقف خلف جرائم لازالت تضرب أمن بغداد سواء بالسيارات الملغمة والعبوات الناسفة أو بفرق الموت والجريمة المنظمة. المخاوف هي أن يؤسس الجدار والخندق لمشروع تقسيم العراق، والأخبار المقلقة حول ضم الكرمة والنخيب وربما غدا الفلوجة إلى داخل الجدار، تثير مخاوف مشروعة من جانب العرب السنة، ليس هذا فحسب وإنما احتمال أن يوظف الجدار ونقاط السيطرة العديدة المنتشرة فيه لعزل الناس بل حتى العوائل والعشائر وحرمانهم من حقهم المشروع بالانتقال الحر وهو ما يتعارض والدستور، تجربتنا المرة وما كانت تعانيه العوائل في جسر بزيبز والرزازة لازالت في الذاكرة. التعدي على أملاك المواطنين مرفوض دستوريا إلا لمصلحة عامة، وصحيح أن السور والخندق يعبر عن مرفق عام وليس خاصا، لكن ماذا عن تعويض الناس؟ وكيف وبأي مقدار؟ لا أحد يجيب على هذه الأسئلة.
إن جميع مشاريع الدولة أصابها الفساد، وهذا المشروع لن يكون استثناء، وكان من المفترض في مشروع مثير للجدل كهذا أن يدرس بعناية أمنيا وماليا ويشترك في النقاش حوله مجلس النواب بلجانه المتخصصة والصحافة ومراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني، وهذا لم يحدث. وأخيرا، حكومة العبادي تلتمس العدل بالفصل والعزل واستخدام القوة فحسب، نعم لا شك هيبة الدولة مطلوبة واستخدام القوة لا مفر منه، لكن الأمن لن يتحقق بهذه الوسائل، الأمن لا يضمنه جدار ولا تحققه عزلة ولا يحصنه خندق، ولا تفرضه قوة تفتقر للتربية الوطنية والكفاءة والمهنية، الأمن صناعة العدل والمساواة ونبذ التمييز، هو مخرج من مخرجات التنمية والعدالة في توزيع الثروات، وبالطبع هو أيضا نتاج المهنية العالية للأجهزة الأمنية الوطنية، الأمن هم مشترك للحاكم والمحكوم، ويتعاظم دور الناس في الملف الأمني ويصبح تعاونهم مع الأجهزة الأمنية لا مفر منه كلما زاد منسوب الخطورة، لكن من يسعى لتعاونهم عليه أن يبرهن أنه يمثلهم بل ويحميهم.
بهذه الوسائل والأساليب يتحقق الأمن وليس بغيرها، هذه حقيقة يفترض أنها معروفة للجميع بل وأصبحت شائعة، والدليل تجربة الدول الآمنة وما أكثرها، لهذا نستبعد أن يكون الغرض وراء إقامة هذا الجدار هو الأمن، بل نخشى فعلا أن تكون وراءه مقاصد أخرى. لقد فشلت هذه التجربة في الماضي وستفشل في المستقبل، والموضوع ذكرني بوقفة عامل كسرى عند قدمي سيدنا الفاروق عمر (رض) وكيف صعق لمنظره وهو يقول*:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمــــرا … بين الرعية عطلا وهو راعيهــــا
وعهده بملوك الفرس أن لهـــــــا … سورا من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقا في نومه فـــــــــرأى … فيه الجلالة في أسمى معانيهـــــا
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا … ببردة كاد طول العهد يبليهــــــا
فهان في عينه ما كان يكبــــــــره … من الأكاسر والدنيا بأيديهـــــــا
أمنت لما أقمت العدل بينهـــــــــم … فنمت نوم قرير العين هانيهـــــا!
رضي الله عنك.. العادل عمر
الأمن حلم جميل، وأمل بات يتطلع إليه الجميع، ومن البديهي والملف الأمني لازال يمثل التحدي الأكبر أمام الاستقرار والتنمية والتقدم، أن يبحث الجميع عن مقاربات مناسبة من المفروض أنها تتبلور من خلال تجربة مؤلمة عمرها ثلاث عشرة سنة، ونخشى في ظل تكرار الخطأ وعدم استيعاب الدروس أنها تطول.
* الشاعر المرحوم حافظ إبراهيم