استمعت بقلق كبير إلى محاضرة للدكتور منقذ داغر، وهو خبير عراقي متخصص في استطلاعات الرأي بالعراق، وخاصة في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “داعش”. وبالرغم من صعوبة القيام بمثل هذه الدراسات في تلك المناطق، إلا أن الخبير العراقي يستخدم طرقاً معروفة وذات مصداقية في علم الاستطلاعات. وآخر هذه الدراسات استطلاع آراء الناس في مدينة الموصل المحتلة من قبل “داعش”، بهذا التنظيم، وآرائهم بالدولة العراقية بشكل عام.
تخلص هذه الدراسات إلى نتائج قد تكون متوقعة، ولكنها هذه المرة مدعمة بالأرقام. وهي نتائج يجب أن تكون درساً ليس للدولة العراقية فقط، بل لأي جهد يحاول القضاء على “داعش” عسكرياً فقط، من دون أن يرافق ذلك مشروع سياسي وفكري مضاد؛ يحترم مكونات المجتمع كافة، ويشركها في عملية صنع القرار، ويوفر لها الأمن والعيش الكريم. وهو ما لم يتم في مدينة الموصل أو المحافظات ذات الأغلبية السُنّية في العراق، التي عانت من التهميش من الدولة العراقية، بل والتنكيل من قبل المليشيات الشيعية المدعومة من الدولة.
يظهر الاستطلاع أن تنظيم “داعش” كان يحظى بشعبية متدنية في الموصل في حزيران (يونيو) 2014، عشية احتلاله للمدينة، تبلغ حوالي عشرة بالمائة، ولتصل الشهر الماضي إلى 40 %. مما يدل على ارتفاع هائل لا يتناسب مع البربرية التي يتعامل بها “داعش” مع الناس. ويظهر هذا الاستطلاع أن السبب يعود إلى شعور الناس أن “داعش” تمكن من إعادة النظام للمدينة، ووقف تغول المليشيات الشيعية والجيش النظامي ضد السكان.
لدى سؤال الناس عن درجة ثقتهم بمؤسسات الدولة العراقية، حظي البرلمان العراقي بنسبة ثقة 18 %، أما الجيش النظامي فحصل على ثقة 38 % من سكان الموصل، فيما كانت حصة قوات الشرطة 30 % فقط. وأبدى العديد من المستطلعين خوفهم من أن استبدال “داعش” بالدولة العراقية بعد تحرير الموصل لن يأتي لهم بالأمان والازدهار المطلوبين، قياساً بتجربتهم السابقة مع الحكومة المركزية.
هل وصل بنا الحضيض إلى الحدّ الذي أصبح أربعون بالمائة من السكان في منطقة معينة يفضلون إدارة همجية تكفيرية إقصائية، تقطع الرؤوس وتكمم الأفواه وتحكم بالخوف، لأن هؤلاء السكان ينظرون إلى البديل -وهو الدولة المركزية- على أنه الأسوأ؟ كم من درس نحتاجه في الوطن العربي لندرك أن الطريق الوحيدة نحو الاستقرار والازدهار تمر من خلال بناء دولة المواطنة المتساوية للجميع، وأن من يرفض سلوك هذه الطريق يعظم من شعبية “داعش” ومشتقاته؟!
هزيمة “داعش” لن تتأتى إلا عن طريق الدولة الحديثة. وكم يبدو بدهياً هذا الكلام، لكن كم هي بعيدة أغلب الحكومات العربية عن ترجمة البدهي إلى خطط عمل مقنعة للناس.
وإذا ما أدركنا أن ثمانين بالمائة من الرمادي المحررة قد دمرت بالكامل، وأن الدولة العراقية الغنية بالبترول خاوية الخزائن لأنها مثقلة بالفساد ولن تستطيع إعادة بناء الرمادي، لأدركنا حجم المشكلة. فتحرير الرمادي إن لم تتبعه إعادة إعمارها قد يقود إلى نشوء “داعش” جديد هناك، سيكون هذه المرة أكثر دموية وإقصائية من الحالي، تماماً كما أن الطبعة الحالية من “داعش” أكثر دموية وهمجية من سابقتها بقيادة أبو مصعب الزرقاوي.
لا يزعم أحد عدم الدراية بما ينبغي عمله. إما أن تعالج الأسباب التي تؤدي إلى قيام الدواعش، بل وازدياد شعبيتها، معالجة حقيقية، أو لنتوقف عن الدهشة حين نرى قطاعات واسعة من الناس تفقد الثقة بحكوماتها وتصطف وراء الجهل والإقصاء وقطع الرؤوس، لأنها ترى في استتباب الأمن وتسيير الخدمات بديلاً أفضل مما يقدم لها!