كانت للإمبراطورية الألمانية في مطلع القرن الـ20 خطة عسكرية فريدة واحدة لا غير للدفاع عن أراضيها ومصالحها إذا قُرعت طبول الحرب، واستدعت الظروف شروع ألمانيا في عملية عسكرية «ما».
رسم رئيس هيئة أركان الإمبراطورية الألمانية –حينذاك- المشير ألفرد فون شليفن الخطوط العريضة الأولى للخطة الحربية عام ١٨٩٧، وأكملها في عام ١٩٠٥، ثم راجعها مرة أخرى ليضع فيها التفاصيل النهائية، ويقدم النسخة الأخيرة منها في عام ١٩٠٦. وكان أحد معطيات هذه الخطة الحربية الافتراضية؛ أنه إذا أعلنت ألمانيا دخولها في حرب فإنها -بلا شك- ستشنّها على جبهتين؛ إذ ستدخل بها ألمانيا في مواجهة مع فرنسا وروسيا في آنٍ واحد.
لم يكن هناك سيناريو تضرب فيه ألمانيا إحدى الدولتين من دون الأخرى، وتجسّدت الخطة -نظرياً- في ضربة واحدة خاطفة يقودها ٩٠ في المئة من قوات الجيش الألماني، تبدأ بغزو باريس لتستولي من بعدها على شمال فرنسا عبر بلجيكا؛ لتحسم مصير الجمهورية الفرنسية بحملة (حازمة) و(قاضية) على حدِّ وصف المؤرّخين. وتجلّت المرحلة اللاحقة من الخطة في إعادة توجيه القوات الألمانية من الجبهة الفرنسية إلى الجبهة الشرقية عند حدودها مع الإمبراطورية الروسية؛ لتجبر القيصر على الخضوع لها.
استندت خطة المشير الألماني شليفن إلى افتراضات عدة، أولها: أن فرنسا لن تصمد قواتها في وجه هجمةٍ بهذا الحجم، وعدّ ذلك أمراً مسلّماً به، وثانيها: أن روسيا لا تمتلك المقوّمات اللازمة للرد على حملة مفاجئة؛ بسبب كبر مساحتها، وأنها على رغم امتلاكها جيشاً عظيماً إلا أنها ليس لديها القدرة على التأهب أو الحشد للدخول في حرب بالسرعة المطلوبة في مثل هذه الأحداث.
لم تكن هذه الاستراتيجية خاطئة في حد ذاتها؛ فالخطة الاضطرارية أُنشئت لتكون الرادع الأول لأي خطر يمس أمن الإمبراطورية واستقرارها، ولو استطاع الألمان تحقيق أهدافهم ليتمكنوا من هزيمة ألد خصومهم آنذاك.
لم تطبق الخطة إلا في عام ١٩١٤، أي بعد نحو عقدين من المبادرة بها، لكنها أخفقت حتماً عند دخولها طور التنفيذ؛ لأنها لم تنفذ عاجلاً بالحزم الذي أريد لها، ولأن الألمان قللوا من شأن (عدو الجبهتين)، واستهانوا بحجم الموقف المرتد وعوامل أخرى، منها قوة الجيش الفرنسي.
نستذكر اليوم خطة شليفن؛ لأن المملكة في موقف تتشابه أحداثه مع موقف ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى؛ فالمعارك تقترب من المملكة عبر (جبهتين) على أقل حد، ومن المتوقع أن نشهد مزيداً من الاضطرابات ما دامت المنطقة لم تشهد «عاصفة حزم» حقيقية نحن في أمس الحاجة إليها على جبهات عدة؛ لتعود الأمور إلى موازينها الطبيعية. ويمكننا أن نستلهم من هذه الخطة التاريخية دروساً ونماذج في الاستراتيجية العسكرية؛ فنرصد نقاط الضعف لنتجنب الوقوع فيها، ونفسر أسباب إخفاق تلك الحملة لكيلا نكررها، وذلك من خلال إدراك تشابه المواقف والعوامل والمعطيات؛ لنستنتج من مواضع القوة في هذه الخطة، ومن نتائجها، ما يمكن لقادتنا العسكريين الاستفادة منه في الخطط الدفاعية والعملياتية في ظل عقيدة الدفاع السعودية الجديدة، والدور القيادي الذي وقع على عاتق المملكة وسط أزمات متتالية أشرفت على الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي. وها هي ذي الحرب تُقرع طبولها على حدود المملكة على أكثر من جبهة؛ فمن جهة السعودية اليوم تواجه خطر الحوثيين والميليشيات التي تحتمي بدعم إيراني لا يهدد الأمن الداخلي لجارتها اليمن فحسب، بل يشكل خطراً حصرياً مباشراً على حدود المملكة الجنوبية ومدنها، وما الحرب الأهلية في العراق، والكارثة الإنسانية التي يُديرها سفاح دمشق، ومن غررت بهم أنفسهم خطف الإسلام من ميليشيات شيعية وجماعات إرهابية كتنظيم داعش وتوابع القاعدة، وما يشكلون من تهديد للدين والعروبة، إلا خطر آخر مباشر لأمن المملكة وعقيدتها على الواجهة الشمالية.
يوضح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز هذا الموقف بقوله: «من حقنا الدفاع عن أنفسنا من دون التدخل في شؤون الآخرين، كذلك ندعو الآخرين إلى عدم التدخل في شؤوننا، ولذلك نحن كما قلت وأكرر ندافع عن بلاد المسلمين». المملكة اليوم فعلاً أمام مرحلة خلاقة، ستدخلها محصنةً بعقيدة دفاعية تقود بها ائتلافاً عربياً إسلامياً، ونرى أولى مراحل تجسيد نفوذها الفعلي اليوم في اليمن، وغداً -إن شاء الله- في سورية والعراق، وفي أيّ قُطْر من العالم الإسلامي يستنجد بها في ذروة أزمته. المملكة ملتزمة بموقفها من أمن الشقيقة البحرين وبقية دول الخليج العربي واستقرارها، وحازمة في دورها بإعادة الشرعية إلى حكومة شعب اليمن، ومتمسّكة بدعم المعارضة السورية، واستعدادها التامّ للتدخل العسكري البري لإغاثة الشعب السوري المضطهد، كما أدلى العقيد أحمد العسيري في تصريحٍ له الأسبوع الماضي.
الرسالة من الرياض واضحة: الهدف من قيادة السعودية هذا الائتلاف ليس إلا دحض المشروع الفارسي، وقطع دابره، وتطاوله السافر على كل العواصم العربية من بيروت إلى بغداد، ومن دمشق إلى صنعاء. وعلى الشعب السعودي أن يدرك أن موقف المملكة يحتم عليها قبول هذه المسؤولية القيادية، كما أن جميع المؤشرات تؤكد أنها ستضطر إلى خوض حروب عدة، وربما على أكثر من (جبهتين)، في ظل الظروف الراهنة والمستقبل المنظور. وهنا تأتي مسؤولية الشعب السعودي في فهم دور القوات السعودية ودعمها بتقدير جهودها الباسلة في كونها جوهر العقيدة الدفاعية السعودية، والعامل الأساسي في نجاحها وانتصارها بإذن الله؛ فالدول العظيمة تنشأ من انتصارات يحققها رجالها العظماء في حروب تغير مجـــرى التاريخ، وتخــلد أمجادها الأمم.
* كاتب سعودي.