كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني من دون تناقض مع الدين أو مع متطلبات الدولة الحديثة، ومن دون رعاية للتطرف؟
ثمة مجال لنظام سياسي اجتماعي علماني لا يتناقض مع الدين، ولا بأس بتكرار مقولة أن العلمانية أفضل فهم وتطبيق للدين، فلم يكن في عالم الإسلام استحضار للدين وتطبيقه في أنظمة سياسية واقتصادية وتعليمية كما هي الحال اليوم، ولم تكن معروفة من قبل مفاهيم وتطبيقات سائدة في المؤسسات السياسية والدينية وجماعات الإسلام السياسي مثل الدولة الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والحكم الإسلامي.
والواقع، أنها «بدع» استحضرت النموذج الغربي في إدارة الدولة وتنظيمها، ثم حاولت أن تمنحه فهماً إسلامياً، أو هي أسلمة للتطبيقات والمعارف والنماذج الغربية في الدولة والعلم والموارد. وفي مرحلة من الهزيمة والفشل، استهوت الفكرة الأنظمة السياسية في عالم العرب والإسلام لتحوّل أفكار الجماعات الدينية «الحداثوية» ومبادراتها إلى مؤسسات رسمية دينية وعلمية وتطبيقية، وصارت لدينا شبكة واسعة من الأسلمة في الإعلام والبنوك والأسواق والتأمين والتعليم والتشريع والتنظيم السياسي والاجتماعي، ولم نعد اليوم في أزمتنا مع التطرف والكراهية والفشل والحروب الدينية في مواجهة جماعات متطرفة معزولة كما كنا نظن أو يراد لنا أن نعتقد. لكننا راهناً في مواجهة منظومة فكرية وسياسية وثقافية معقدة ومتماسكة، ومصالح اقتصادية واسعة، وطبقات اجتماعية راسخة ونافذة تقوم على الأسلمة. وهي عمليات لم تعد تحتمل التأجيل أو الإنكار، ففي كل يوم يمر من دون أن نعترف بأزمتنا ونتحرك باتجاه المواجهة الفعلية وعدم الهروب من الذات والأزمة، نمعن أكثر في سقوط يعصف بالحياة بكل معانيها، ويحوّلنا جماعات تتقاتل على الماء والكلأ.
لا يساعدنا التراث الديني القائم في مراحله وتطوراته، في بناء نموذج فكري وتأصيلي يستوعب العلاقة بين الدين والدولة على نحو ينسجم مع طبيعة الدول والمجتمعات الحديثة واتجاهاتها منذ قيام الثورة الصناعية، ومن المحيّر أنه في موجة الاقتباس الشاملة من الغرب في التنظيم والسياسة والثقافة والفنون وأسلوب الحياة والتعليم والسلع والتكنولوجيا، لم تنشأ مبادرات ومحاولات كافية لدراسة النموذج الفكري والفلسفي والتطبيقي لدى الغرب واستيعابه في العلاقة بين الدين والدولة، أو الإجابة عن سؤال: كيف خرج الغرب من الأزمة والصراعات الدينية إلى حالة انسجام وتفاهم لم تعصف بالدين ولم تضعفه ولم تتناقض معه؟
لكن المحير أكثر هو المواجهة الرسمية السياسية بلا هوادة مع الدراسات والمبادرات الفكرية الإصلاحية في عالم العرب والإسلام. لقد تعاملت الأنظمة السياسية العربية مع الدين بالنظر إليه كمسألة «أمن دولة»، ولم تسمح بالدراسات النقدية للفكر الديني مقابل رعاية مؤسسية ومالية واسعة من البحث والتدريس والرسائل العلمية والمبادرات المجتمعية والاقتصادية لعمليات «الأسلمة»، وهي مواجهة تذكر بحالات تاريخية في عالم الإسلام لقيت تجاهلاً وحرباً شرسة، ولم تجد حتى اليوم الاهتمام الكافي لفهمها، مثل المرجئة والمعتزلة، والاستيعاب الفلسفي والصوفي الفلسفي للدين، بل إن قدراً واسعاً من سوء الفهم والتشويه لحق بها.
يبدو مرجحاً بالطبع، أن الدول في مراجعتها المنظومة الفكرية الدينية والتراثية وعلاقتها بالدين ستلاقي معارضة شعبية واجتماعية، وستكون هناك مصالح اقتصادية وطبقات اجتماعية واسعة متضررة. فقد نشأت مصالح اقتصادية «إسلامية» تعكس تحالفاً معقداً بين نخب سياسية واقتصادية غير إسلامية واتجاهات شعبية واجتماعية واسعة. والحال، أنها لم تكن سوى توظيف تسويقي لتحويل اتجاهات الناس وأفكارهم إلى سلع تجارية واستهلاكية. ويمكن على الدوام الملاحظة أن البائعين أكثر فهماً وإدراكاً لاتجاهات الناس واحتياجاتهم من الإصلاحيين والتنمويين، لذلك أنتجت الظاهرة الدينية أسواقاً وأعمالاً تجارية واسعة، ولم تنشئ تقدماً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولم تساهم في تحسين الحياة. فهي لم تعمل لشديد الأسف، إلا لمصلحة مصرفيين وتجار أسلحة ومواشٍ وملابس ومقاولين وموردين في التعليم والمسابح والأطعمة والتداوي والسياحة…
لكن أسوأ ما لحق بالإصلاح، أن النخب والقيادات السياسية والاجتماعية تشعر في نظر نفسها بهزيمة عميقة، وتوافق على رأي الجماعات الدينية بها، وتخوض المواجهة مع المتطرفين وهي تعتقد أنهم على صواب. وقد صارت ويا للغرابة، في حاجة إلى أحد يقنعها بأنها ليست ضد الدين، ولا تحتاج لتكون منسجمة مع الدين أن تفهم الدين وتطبقه كالجماعات المتطرفة.
* كاتب أردني