أطرف ما في زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، لمتحف كابيتوليني في إيطاليا، هو الجدل الواسع بعد عرض صور لأغطية بيضاء تغلّف التماثيل العارية فيه، وبينها تمثال “الآلهة فينوس” الشهير. ما دفع بلدية روما إلى التبرؤ من الواقعة، وإلقاء التبعية على مكتب رئاسة الحكومة الذي نظم الزيارة.
ربما يراها البعض الأمر انتهازية مبالغا فيها من قبل الأوروبيين، وراء المصالح الاقتصادية والمالية، أو يراها آخرون احتراما لتقاليد وثقافة رئيس الدولة الزائر. لكنني أراها من زاوية ثالثة، بما يتجاوز هذا وذاك؛ إنّها تعكس طبيعة العلاقات الدولية واللغة الوحيدة المفهومة فيها، وهي لغة القوة والمصالح. فقد وقع الزعيم الإيراني، خلال تلك الزيارة، عقوداً بمليارات الدولارات مع الشركات الأوروبية.
هل المسألة مصالح اقتصادية بحتة؟ بالطبع لا. فالتحول في الموقف الأميركي الأخير، عشية مفاوضات جنيف، والذي عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي في لقائه مع المعارضة السورية، يكرّس ويرسّخ هو الآخر التحولات العميقة التي تحدث في رؤية الولايات المتحدة للمنطقة العربية، ولدور إيران فيها، ليس بوصفها قوة إقليمية صاعدة، بل هي القوة الإقليمية الأولى، بخاصة مع تحالفها الاستراتيجي مع الروس.
صحيح أنّ هناك استعجالا كبيرا في رهان الغرب على “الحصان الإيراني”، وربما -أيضاً- في رهان إيران على الورقة الطائفية الشيعية، في ضوء الواقع الديمغرافي في المنطقة العربية، على المدى البعيد. لكن، في المقابل، فإنّ موازين القوى في الآونة الأخيرة، والتي يمكن إدراكها عبر ما يحدث في المشهد السوري، تؤكّد أنّ المحور الإيراني-الروسي يحقق انتصارات خطيرة، بعد السيطرة على بلدة الشيخ مسكين، واستعادة كامل محافظة اللاذقية، والاقتراب من السيطرة على الأجزاء الواسعة من ريف دمشق.
وفي الوقت نفسه، استعادت القوات العراقية الرمادي من “داعش”، وتقوم مليشيات “الحشد الشعبي” بعمليات تمهيد لتطهير طائفي في ديالى. وإذا استمر الوضع الحالي في العراق، فالحدّ الأدنى للطموح الإيراني يتمثل في إقامة “دولة شيعية” على مساحة واسعة من جنوب ووسط العراق، موالية لطهران، تتوافر على ثروة نفطية هائلة، محاذية للخليج العربي تماما.
وعلى الطرف الآخر هناك “سورية المفيدة”، الدولة التي تسيطر على مساحة واسعة من دمشق مروراً بحمص وريفها، وحماة وريفها، إلى اللاذقية بالكامل، مع جزء واسع من الريف الجنوبي.
ضمن سيناريو “الحدّ الأدنى”، في ضوء موازين القوى الحالية، فإنّ إيران ستمتلك نفوذاً دائماً على مساحة واسعة من العراق وسورية، وضمن الحدّ الأعلى يمكن الحديث عن مشروع مستقبلي أكثر طموحاً بكثير!
هل التحول الأميركي والأوروبي جاء عبثياً، أم مبنياً على قراءة دقيقة لحالة النظام الرسمي العربي المترهلة، ولحجم النفاق والتناقض في علاقة العرب بأنفسهم وبالآخرين، وفي حجم الضعف والوهن العربيين، وفي مستوى الأزمات الداخلية الطاحنة في هذه الدول؟
من الضروري أن ننظر إلى حجم التحولات والتغييرات العميقة الجارية في المنطقة، برؤية موضوعية. وإذا كان كثيرون يرون إيران عبر المشروع الإقليمي، فإنّ المقارنة الموضوعية مع الحالة العربية، من الضروري أن تضعنا أمام الوجه الآخر لإيران؛ دولة المؤسسات، والمصالح القومية، والديمقراطية الدينية، لا دولة أفراد نرجسيين، يسعون وراء مصالحهم ونزواتهم الشخصية والذاتية!
إيران ليست دولة ديمقراطية بالمعنى المعروف، لكنّها دولة تحترم سيادتها، وأهم ما يميزها عن دولنا، بالإضافة لكل ما ذكر، وكلمة السرّ القاسية على شعوبنا، هي الاستقلالية الحقيقية!
إذا كان هناك من ينتقد تغطية التماثيل العارية، من زاوية ثقافية، فله الحق. أمّا إذا كان مسؤولون عرب ينتقدون ذلك من زاوية سياسية، فالأفضل لهم أن يفكروا في تغطية عوراتنا المكشوفة أمام العالم أجمع!