يدفع الشرق الأوسط اليوم ثمن مجموعة من الزلازل ضربَتْه وأطاحت ركائز استقراره. لا مبالغة في القول إننا نتحدث عن منطقة منكوبة. عن كيانات ممزّقة، وكيانات خائفة، قلقة من جيرانها. ومرتبكة بأقلياتها. نتحدث عن أنهار من الدم، وملايين المهجّرين، عن اقتصادات مدمَّرَة، وولاءات عابرة للحدود. عن أزمات هوية وقلق على الوجود.
تدفع المنطقة ثمن زلازل تلاحقت. الثورة الإسلامية في إيران وتصدير الثورة والنهوض الشيعي. صعود التيار السنّي المتطرّف. الحرب العراقية – الإيرانية. الغزو الإسرائيلي لبيروت. الاجتياح العراقي للكويت. الغزو الأميركي للعراق وما رافقه وتبعه. انسحاب باراك أوباما من العراق وتركه جمر المنطقة في أيادي أهلها. «الربيع العربي» ومحاولة الإسلاميين الاستيلاء على قطاره. الأزمة السورية بعنفها وتدخّلاتها ودمويتها وصولاً إلى التدخُّل الروسي… والاتفاق النووي الإيراني، هذا فضلاً عن النزاع الشيعي – السنّي.
ليس من السهل على دول تعيش بلا مؤسسات راسخة وواسعة التمثيل، استيعاب هذا الدَّفق من الزلازل. هكذا انفجرت كيانات واندفعت مجموعات إلى تصفية حسابات تاريخية ورسم الحدود الجديدة بالدم والفرز السكاني. لا نتحدث عن انهيار أنظمة بل كيانات، ولا نتحدث عن اشتباك بل عن سقوط تعايش.
يسمع الصحافي في هذه الأيام عبارات لم يتوقّع يوماً أن يسمعها. يقول المتحدّث: «إذا أدى التدخُّل العسكري الروسي إلى رسم حدود سورية المفيدة فإن لبنان المطوّق سيكون محافظة تابعة لها. لا أعرف ماذا سيكون موقع مليون سنّي لبناني ومعهم مليون سنّي سوري لجأوا إليه. أنظر إلى وضع السنّة في الأنبار ووضعهم في سورية».
ويضيف: «لبنان القديم لم يعد موجوداً. المكوّنان الكبيران فيه يبحران في اتجاهات متعاكسة. التقسيم في لبنان مستحيل. السلام فيه سيكون جزءاً من الهدنة في المنطقة. سيكون الكيان غطاءً هشّاً لمجموعات متربّصة تعيش في بلد فقير».
ذكّرني كلام المتحدث اللبناني بما كنتُ سمعتُه في برلين حين أصرّ اللاجئ السوري على أن نتحدث على انفراد. كان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان قبل أن يستقيل من وطنه. سألتُه عن رحلته في قوارب الموت فأجاب: «سأقول لك الحقيقة كي لا تخطئ. إنها موجعة ورجائي ألاّ تنشرها كي لا تضاعف آلام السوريين وهي رهيبة».
غالَبَ دموعه وأضاف: «لم تعد هناك سورية. يمكن أن تعثر هناك على سنّي وعلوي ودرزي. على عربي وكردي. لكنك لن تعثر على السوري الذي تتطابق مشاعره مع خريطة سورية التي تعرفها. كيف تفسر أن سوريّاً يقاتل إلى جانب شيشاني لأنه سنّي؟ وكيف تفسّر أن علوياً يقاتل إلى جانب أفغاني لأنه شيعي؟ الأكراد يوسّعون مناطقهم. لن يقبلوا أبداً العودة إلى ما كان. توزّع السوريون على الخرائط الصغيرة. حين يتوقف إطلاق النار، سنكتشف الأهوال ومعها الفرز السكاني. مشكلتنا أعمق من «داعش» على رغم أخطاره وأهواله».
تذكّرت أيضاً ما سمعته في بغداد حين قال لي الرجل العراقي: «كان صدام حسين طاغية ومجرماً رهيباً، ولكن كان هناك العراق. قاتلنا لاستعادته منه. أعترف لك بأمانة. ما فعله العراقيون بالعراقيين بعد غياب صدام أقسى بكثير مما فعله بهم. ما حصل بعد رحيل المحتل الأميركي أشدّ هولاً مما حصل خلال الاحتلال. الاغتيالات والتطهير العرقي والفرز السكاني. لا أعفي أي فريق من الارتكابات. عملياً لم يعد هناك العراق. هناك ميليشيات وطوائف وعشائر. هناك عرب شيعة وعرب سنّة وهناك أكراد. العراق الذي كنّا نعتبره دولة عربية عريقة وواعدة لم يعد موجوداً. حين يتوقّف القتال سيكون العراق كياناً هشاً تتعايش فيه مجموعات مثخنة وفقيرة، ومرتهنة للإرادات الخارجية».
في أربيل، قال الشاب الذي رافقني في الجولة: «أنتَ تستطيع زيارة بغداد، أما أنا فطُردت من الحي الذي وُلدتُ فيه. الغريب أنني لم أُطرد لأنني كردي بل لأنني سنّي». وتسمع من العراقيين أن السرطان أصاب الكيان العراقي قبل ظهور «داعش» وإن كان هذا التنظيم أدى الى استفحاله وانتشاره.
أقسى ما في هذه الصورة أن العربي هو ضحيتها الكبرى. الإيراني ينتظر في دولته وهي غير مهدّدة. والتركي ينتظر في دولته وإن هبت رياح التفكُّك عليها وحولها. والكردي يستعدّ لحجز موقعه في كيانات سايكس بيكو التي شاخت.
الكيانات التي تمزّقت عربية. والكيانات القلقة عربية. والقتيل عربي والمهجّر عربي والركام عربي. يعيش العربي وسط الركام وأصوات سيارات الإسعاف. يخاف الحاضر ويرعبه المستقبل.
السؤال هو هل يمكن استرداد العربي من الهاوية؟ وهل يمكن إيقاظ العروبة التي تتسع للتعايش والتقدُّم؟ هل يمكن للتمرُّد السعودي على سياسة التدخُّلات الإيرانية أن يتحوّل يقظة عربية لاستعادة التوازن في الإقليم إذا انخرطت مصر وأطراف عربية أخرى في مشروع بهذا الحجم؟ إن المعركة الفعلية هي استعادة العربي من ركام الزلازل ورياح التفكُّك والظلام واستعادة العروبة الرحبة لتنظيم العيش بكرامة مع المكوّنات الأخرى في الشرق الأوسط الرهيب.