أعجبتني رسالة هاتفية مختصرة، طريفة، بعثت بها إدارة مدرسة خاصة لطلبتها، مساء يوم السبت الماضي، نصّها: “عزيزي الطالب، نظراً للأحوال الجويّة السائدة، نؤكّد لك أنّ غداً الأحد يوم دوام كامل، لذلك حلّ واجباتك المنزلية، وتوقف عن الدعاء بأن يكون غداً صباحاً عطلة”!
الثلوج جميلة ورائعة. وهي لكثير من الناس، حتى الذين يواجهون صعوبات شديدة في التأقلم مع العبء المالي واليومي لها، دافع للفرح والسرور والتفاؤل. لكن ما يحوّلها، عادةً، إلى كابوس وأزمة نفسية واجتماعية، ومصدر للجشع والأنانية والتوحّش المدني غير المبرر، هي سلوكياتنا نحن، وأخلاقنا في التعامل مع هذا المشهد الطبيعي، الذي يحدث فقط مرّة أو مرتين أو أكثر قليلاً في السنة.
ذلك لا يعني الاستهتار بضرورة الاستعداد والاهتمام بـ”التحوّط” ليوم أو أكثر، لعدم القدرة على الخروج من المنزل. لكنّ المطلوب هو التصرف بعقلانية واعتدال، وعدم الانجراف وراء “غريزة البقاء”، وكأنّنا نتحدث عن حرب، بل من يصنع “الحرب الأهلية” ليس الثلوج ولا الأسلحة أو العدو المتربص في الخارج المتآمر علينا؛ الحروب الأهلية الداخلية هي نتاج أخلاقنا وثقافتنا وأفكارنا ومشاعرنا.
أخلاق الثلج، مثل أخلاق الحرب، أو أخلاق جمهور كرة القدم أو حتى أي فعاليات اجتماعية أخرى؛ هناك شريحة اجتماعية واسعة مسكونة بحالة من الأنانية والخلاص الذاتي وقصر النظر في رؤية علاقتها بالآخرين. وفي المقابل، هناك شريحة اجتماعية، عريضة أيضاً، في مجتمعاتنا اليوم، تنزع إلى السلوك الحضاري والإنساني الراقي، والقيم العقلانية والنسبية في أحكامها وتعاملها مع المتغيرات والظروف المختلفة.
من الضروري أن يفكّر كثير ممن يتحوّلون إلى “كائنات مرعوبة” في الثلوج، أنّ آلاف الأردنيين في الشوارع وغرف الطوارئ، في الأمن والبلديات وأمانة عمان، والشركات المعنية، والدفاع المدني (بالطبع)، هم خارج منازلهم متأهبون لإنقاذ أي شخص يحتاج المساعدة، أو لتسهيل حياة المواطينن والناس، وهم مثلهم يحبون الدفء والتسلية والتمتع بالثلوج، لكن المهمة المطلوبة منهم تقتضي هذه التضحية العظيمة لهم ولأسرهم.
اجتهدت الأجهزة المعنية بقوة للتعامل مع الأزمات، ولاحظنا تغيراً واضحاً خلال الأشهر الماضية في طريقة التعامل معها، وفي التعلّم من الأخطاء. وكنت أتأمل وأنا أشاهد بعض “عمال الوطن” في الأنفاق متأهبين بصورة كاملة لتصريف المياه، في أجواء البرد القارس. وفي صباح اليوم كنت أشاهدهم ينظّفون الحاويات الممتلئة بالطعام الفائض عن الحاجة، الذي يستغني عنه كثير من العائلات في عمان الغربية، بينما كان يمكن الاكتفاء بجزء كبير منه!
وإذا كانت البنية التحتية في مجتمعاتنا، بخاصة المدارس الحكومية والجامعات، وشبكات النقل العام، لا تساعد على تحدّي الظروف المناخية والعمل في أيام الثلج، فهذا لا يعني، بالضرورة، أن يكون البديل أياما من العطالة الكاملة للعقل والفكر والثقافة، وتضييع الوقت، بلا أي مردود؛ بالأكل والتسلية والدردشة أو لعب الورق. ألا يمكن أن تفكّر الجامعات والمدارس أو العائلات بأسلوب آخر للتعامل مع أيام (في حال كان ذلك) من العطلة الاضطرارية، كأن يكون هنالك واجب بحثي، أو قراءة كتب أو حضور أفلام مفيدة، أو حوارات نافعة، أو مشاركة الشباب في مبادرات مجتمعية جديدة للمساعدة في الثلوج، بدأت تظهر لدينا في الأعوام الأخيرة؟
لعلّ العواصف أو المنخفضات القطبية مناسبة مهمة لنتعرّف على مجتمعاتنا بصورة أفضل، وعلى نقاط القوة والضعف لدينا. ومن الكلمات الجميلة التي أتذكرها دوماً للمفكر البحريني محمد جابر الانصاري (من محاضرة له، أذكرها هنا بتصرف): “قبل أن نطالب بكنس الإمبريالية من بلادنا، علينا أن نكنس أبواب بيوتنا. وقبل أن نتحدث عن إدارة العالم، فلننجح في إدارة حياتنا اليومية”!