هناك ومضات ولفتات لا يمكن أن تُنسى في حياة الإنسان، قد تحدث لي أو لكم أو لغيرنا، لكنها حقاً تثير الإعجاب والاحترام، وهذا ما وفقت في التعبير عنه الملكة رانيا العبدالله.
فعقِيلة ملك الأردن انزعجت – ومعها الحق كل الحق بذلك- من الكاريكاتير الذي وضعته مجلة شارلي ايبدو، حين رسموا الطفل السوري إيلان كردي الذي فارق الحياة بعد غرق مركب لاجئين يضمه وعائلته على شواطئ تركيا، وعلقت المجلة ماذا كان سيصبح يا ترى؟ وردت ساخرة: قد يصبح متحرشاً بالنساء. وهي إيماءة بأن اللاجئين سيصبحون أشراراً، بل وحتى أطفالهم عندما ينشأون في البلدان الأوروبية. رانيا العبدالله أوحت للرسام الأردني أسامة حاج أن يكتب: قد يصبح معلماً، أو طبيباً، أو والداً حنوناً.
المجلة سقطت سقوطاً ذريعاً في هذا الكاريكاتير، فهو عنصري، وفيه احتقار، واستهانة، وحقد، وانتقام، وغطرسة، وإذا عزونا هذا للجريمة الكبيرة، التي ارتكبها «دواعش» ضد المجلة في هجوم إرهابي بشع، وتلاها بعد فترة تفجيرات باريس من المجرمين أنفسهم، وتأثير ذلك نفسياً على المجلة، إلا أنهم اختاروا الرد والمثال الخطأ، الذي قتلوا به براءة الطفولة وخدشوها، ملقين بمشاعر عائلة الطفل، والعرب، والمسلمين عرض الحائط، بتصنيف بذيء واحد.
من وضع الكاريكاتير أراد أن يقول وبفجاجة: أيها الأوروبيون أو الغرب، لا تستقبلوا هؤلاء اللاجئين؛ فإنهم يحملون في جوانبهم الشر، وحتى أطفالهم سيتحرشون بالنساء في المستقبل، والمصيبة أنه ألقى تهمته جزافاً، لا تسندها أي براهين أو قرائن. متناسياً أو متجاهلاً أن بعض الضحايا من منسوبي المجلة من أصول عربية، تلقوا رصاصاً وهم يدافعون عنه.
دعوني أسأل هذا السيد الهمام الذي أساء لنفسه ولفرنسا قبل أن يسيء للعرب وغيرهم، ألم يغادر الرئيس الفرسي السابق نيكولا ساركوزي منصبه وهو مكلل بالفضائح؟ أليس أول رئيس يتم اقتياده لمركز الشرطة وهو مقيد اليدين؟ فإذا كان هذا هو الرئيس الذي يفترض به أن يكون المثال الديموقراطي للفرنسيين، ولديه ما لديه من هذه السلوكيات فما بالك بالآخرين؟
هناك من يرى أنني أتجنى وأبالغ، أو اختار ما يحلو لي، وعليه أزيدكم من الشعر بيتا، انظروا إلى تصريحات جون لوبان مؤسس الحزب الوطني الفرنسي، أو إلى ابنته ماري لوبان رئيسة الحزب حالياً، وكلها تفتقر إلى معاني الإنسانية، فهم يفكرون فقط في الفرنسيين الأصليين، أما البقية فهباء.
بيرلسكلوني رئيس الوزراء الإيطالي السابق ليس بأحسن حال، فهو يذهب من رئاسة الوزراء إلى المحكمة؛ كي يعود مرة أخرى وهو يحمل قضايا ضده بالكم والكيف، ولن ينسى أحد تصريحه العنصري ضد أوباما عندما قال إنه برونزي؛ لكي لا يصفه بالأسود، وكأنما هو مضطر بأن يصفه بإحداهما.
وبما أننا بمعرض كاريكاتير التحرش، فما يقول السيد صاحب الكاريكاتير عن تلك الفضيحة المدوية، التي تورط بها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون مع متدربة في سن ابنته، تعمل في البيت الأبيض تدعى مونيكا لوينسكي؟ أيا ترى هل أتى كلينتون وهو طفل مهاجر من الرياض، أو القاهرة، أو صنعاء، أو بغداد؟ أجبنا يا رسام الكاريكاتير.
ما ذكرته في المقاطع السابقة لا يعني تقليلاً من الغرب، فهم والشرق والشمال والجنوب والوسط، وكل بقعة في وجه الأرض يولدون أنقياء أبرياء، وما سيصبحون عليه مستقبلاً، إنما هو من تأثير كل ما يحيط به، أو بها من عوامل تربوية، وتعليمية، واقتصادية، واجتماعية، وإعلامية، والغرب حضارة متقدمة، لا يمثله هذا الرسام أو الزعماء الذين ذكرتهم، فهناك علماء أجلاء تدين لهم البشرية والإنسانية، وهناك أثرياء، وفنانين وإعلاميين يقدمون الكثير لأجل قضايا الإنسان، ولأجل حق اللاجئين، ولأجل الفقراء، ولأجل مكافحة المرض والجهل.
ما سطرته الملكة رانيا رد بليغ ومهم. يصل بسلاسة للرأي العام الغربي الذي يكره الخطب العنترية. أو ردود الفعل العنيفة، بل إنه يحترم هذه الردود الحضارية التي تخاطب العقول، خصوصاً أنها أتت من شخصية اعتبارية، لها مكانتها المهمة، سواءً لدى العرب أم العالم، فضلاً عن أنها بعيدة عن المزايدة، فهي قد حضرت مع زوجها ملك الأردن مظاهرة العزاء التي أقيمت في باريس، تعاضداً مع الضحايا من منسوبي مجلة «شارلي» نفسها.