دعا الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي عبر صفحته في موقع «فايسبوك» أخيراً، إلى «مؤتمر تأسيسي للفلسطينيين»، «يعيد ترتيب أحوالهم وكياناتهم الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل)، ويمهد لتوليد حالة سيــاسية جديدة، على صعيد الرؤى وأشكال العمل ووسائل الكفاح». ولفت كيالي في دعوة مطولة ومفندة الأوجه والأسباب، إلى أن «معظم الفصائل باتت فاقدة شرعيتها، ومبرّر وجودها. فبعد أن لم تعد تفعل شيئاً في ميدان الكفاح ضد إسرائيل فقدت ما يسمى «الشرعية الثورية»، وبعد أن لم يعد لها مكانة في مجتمعها باتت فاقدة شرعيتها التمثيلية. وفوق هذا، فمعظم الفصائل السائدة ليس لها هوية معينة، لا سياسية ولا فكرية، سوى كشف الرواتب والعلاقات الوظيفية مع النظام السوري، بعد انتهاء نظامي القذافي وصدام».
وتأتي هذه الدعوة، المصيبة والملحة في آن، والتي وجهها كيالي إلى «المناضلين والمثقفين الفلسطينيين»، متقاربة في الزمن مع ذكرى مرور خمس سنوات على انطلاق ثورات الربيع العربي، بنجاحاتها وإخفاقاتها، وانتهاء نظامي القذافي وصدام عملياً فيما نظام الأسد مستمر على أشلاء السوريين ودمائهم.
يأتي ذلك أيضاً فيما تدخل حركة «فتح» عامها الحادي والخمسين، وما يحمله ذلك من رمزية ثقيلة تضع الثورات الفتية ورافعاتها السياسية والشعبية في مقارنة دائمة ومجحفة بقضية بقيت لعقود لا صوت يعلو فوقها… وهياكلها التنظيمية والحزبية التي ناهزت لتوها سن اليأس.
ولكن، وفيما يبدو إطلاق مبادرة من هذا النوع مؤشراً حقيقياً إلى وعي غير احتكاري ومتخفف من شعور فلسطيني راسخ بالأحقية الأخلاقية والسياسية، يبقى أنه حالة فردية أو محدودة جداً في أحسن الأحوال ولا تعبر عن الجمهور العريض والفئة الأوسع من المدعوين للانخراط فيها. ذلك أن «المناضلين والمثقفين الفلسطينيين»، الذين وجهت إليهم الدعوة، ويميلون بغالبيتهم لتيارات يسارية وعلمانية، مرشحون أكثر من غيرهم لصد الطلب وتخييب الآمال.
ويكفي أن نراقب أو نستطلع المواقف والبيانات التي صدرت عن هذه الشريحة منذ مطلع الربيع العربي حتى اليوم، وخصوصاً مع بلوغه ذروته الدموية في سورية، لنتيقن أن لا دعم عملياً، أو تعاطفاً واضحاً مع الضحايا من شعوب البلدان المجاورة وقضاياهم.
ولا شك في أنه كان ثمة تأييد ما لانتفاضتي تونس ومصر، لكنه بقي أقرب إلى اللحظة الرومانسية الخاطفة، منه إلى الموقف السياسي المعلن والصريح. ثم ما لبث هذا التأييد أن تقلص تدريجياً فبلغ حده الأدنى مع أول انتخابات خاضها البلدان وتمخضت عن وصول الإسلام السياسي إلى الحكم، لينقلب عداء معلناً أو شبه معلن في اليمن وليبيا وسورية.
وباستثناء أصوات تغرد خارج السرب بين الفينة والأخرى (ككيالي نفسه المواظب على تأكيد موقفه، أو أخيراً ريم البنا على سبيل المثال)، لم يُسمع أو يقرأ موقف واضح مؤيد لحق تلك الشعوب «الشقيقة» بالانتفاض على ظلم مديد لحق بها، يطلقه أو يتبناه مثقفون أو أكاديميون أو فنانون أو صحافيون أو أي من المنتمين لمهن معنية بالشأن العام غير الفلسطيني. فحتى مبادرة ريم البنا، التي كان يمكن البناء عليها لكونها جاءت في لحظة إنسانية نادرة، على أثر أحداث مضايا واستخدام سلاح التجويع ضد المدنيين، لم تتحول حملة شعبية واسعة، ولا حتى تمت مشاركتها على نطاق كبير في وسائل التواصل الاجتماعي كما تجري العادة. علماً أن صور المعتقلين والمضربين عن الطعام وقبلها أحداث غزة، غزت «بروفايلات» الناشطين السوريين واللبنانيين على السواء تضامناً وتنديداً. بل والأكثر إيلاماً في ذلك كله، أن جل ما ارتكب ويرتكب بحق الشعوب العربية على مدى عقود، وبحق السوريين تحديداً في السنوات الخمس الماضية، تم ويتم باسم فلسطين والفلسطينيين ومزاعم استرجاع القدس.
وعوضاً من أن تنطلق أصوات عالية ضد نظام بشار الأسد وأعوانه لتقول «لا، ليس باسمنا» تقتلون وتضطهدون وتجوعون، وطريقكم إلينا لا يمر فوق جثث السوريين واللبنانيين، ساد صمت رهيب، وفي أحسن الأحوال «حياد» سلبي.
وفيما يطلب من مؤيدي الثورة السورية التشديد الدائم على وقوفهم إلى جانب القضية الفلسطينية وتأكيد أحقيتها عند كل مفترق طرق، كنوع من تبرئة الذمة، لم يُطلب في المقابل من جموع الفلسطينيين موقف مشابه حيال السوريين.
والحال أنه لا يكفي تفسير ذلك بموقف اليسار ومحور الممانعة، والتعامي عن كل ما يجرى تحت شعار «العلمانية» والخوف من البعبع الإسلامي، كما لا يكفي القول بتشظي «القضية المحورية» أمام قضايا «وطنية» محلية وانشغال كل شعب بهمه. ذاك أن القضية الفلسطينية لا تزال مقياساً رئيسياً (إن لم يكن وحيداً) في تقييم المواقف السياسية العامة و «أخلاقيتها»… لذا فإنه من الصعوبة بمكان اليوم تغيير وحدة القياس تلك!
ومن المفارقات التي قد تؤخذ كمثال عن تلك الصعوبة وعدم اقتصارها على فئة محدودة من أطراف هذه العلاقة الثلاثية الشائكة، مجتمع الثورة السورية نفسه، الذي لم يطالب الفلسطينيين بما طالب به اللبنانيين. فلم يُساءل هؤلاء عن مواقف تضامنية معهم ولم ينتظر منهم «رد الجــميل» عن تلك السنوات التي انتهكت فيها حقوق الســـوريين بذريعتهم. بل كان ذلك تحصيلاً حاصلاً لا يفضي بالضرورة إلى معاتبتهم على صمتهم الحالي أو تأييدهم لبشار الأسد، كما يجرى في كل مناسبة مع اللبنانيين. لكن، وعلى رغم تبرؤ عدد غير قليل من اللبنانيين (ولا سيما الشيعة وإن كانوا متخـــففين من طوائفهم) من أفعال «حزب الله»، ومعارضتها عملاً وقولاً، إلا أنهم بقوا في مرمى «نيران صديقة» كثيرة.
ليس المراد من ذلك العرض طبعاً الاستعاضة عن «قضية مركزية» فلسطينية بقضية مركزية سورية، ولا إقامة احتكار جديد لدور الضحية، الذي سبق أن أوقع الفلسطينيين أنفسهم في ما وقعوا فيه، لكن الملح اليوم أكثر من أي وقت، هو إعادة النظر في تلك «الشرعيات الثورية» المتشعبة، ومن يحملون لواءها في مثلث لبنان – سورية- فلسطين.