هناك بديهية اجتماعية ثقافية في جميع دول العالم ولكنها في الأردن تبدو إشكالية عصية على الفهم، وتنشأ عن عدم استيعابها متوالية معقدة من الأفكار والعلاقات وتقييم المواقف والأشخاص، وكذلك التأييد والمعارضة واتجاهات الجدل والتشكيل السياسي والاجتماعي للناس، ومعنى المعارضة وحدودها؟
في الأردن وربما في الأردن فقط، مطلوب منك إذا كنت معارضاً للحكومة أن تكون بالضرورة مؤيداً لـ «المقاومة» التي تعني بالضرورة «حزب الله» و «حماس» وإيران والنظام السوري وكوريا الشمالية (أعفينا مؤخراً من مديح كوبا)، وأن تعارض كل أنواع العلاقة مع إسرائيل وترفض التطبيع وتتظاهر ضد السفارة الإسرائيلية وتقاطع كل البضائع والسلع التي يطلب منك مقاطعتها خدمة للمقاومة أو نكاية بالمشروع الصهيوني (المسألة في غالب الأحيان عمليات تنافس تجاري لا علاقة لها بالمقاومة ولا الصهيونية)…
لا بأس بالمقاومة طبعاً، وأتمنى لها التوفيق والنجاح، وإن كانت لم تنجح في شيء، إذ لو لم تكن مقاومة لكانت القضية الفلسطينية في حال أفضل، ولكان الوجود الفلسطيني في فلسطين أفضل كثيراً مما هو عليه اليوم. ذاك أنه لم تكن للمقاومة نتيجة تذكر سوى التضييق المتواصل على الفلسطينيين وتحويل وجودهم الى جحيم وعبء، وقتلى وأسرى وأيتام بلا جدوى، ونشوء مصالح واستثمارات مقاوماتية طفيلية وقطط سمان وعلق عملاق لا تفيد شيئاً سوى نهب الموارد.
لا يستطيع المواطن الأردني أن يكون معارضاً للسياسات الحكومية، وأن يكون في الوقت نفسه غير معني بالمقاومة أو لا يؤيدها أو لا يقتنع بها. فالمعارضة في الأردن ليست سوى الدعوة الى عدم أكل الجزر الاسرائيلي او مقاطعة مقهى او الهتاف ضد السفارة الاسرائيلية… وبغض النظر عن فائدة وجدوى ومعنى هذا النضال فإن المواطن الذي يعمل لأجل تفعيل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية ويشارك في أنشطة جماهيرية وتأثيرية أو إعلامية لأجل تعديل قانون الموازنة أو السياسات الضريبية باتجاه مصلحة الفقراء ومتوسطي الحال…، يحتاج لكي يمرر ذلك (وغالباً ما يفشل) أن يؤيد «حزب الله» أو «حماس» او السلطة الوطنية الفلسطينية.
ولا مجال في الأردن لمعارضة التطبيع مع إسرائيل ومعاهدة وادي عربة على أساس النظر والموازنة في المصالح والمكاسب والخسائر. ليس هناك سوى معارضة جذرية لا تتحمل نظرة واقعية، ولا يمكن التفكير في خيارات غير المقاطعة الشاملة والشهادة والمقاومة المسلحة، أي خيارات كخيارات الفلسطينيين أنفسهم بكل أطيافهم وتياراتهم، والتي تسمح بالتوفيق بين المقاومة والمشاركة في الانتخابات الفلسطينية أو الإسرائيلية والعمل في إسرائيل، أو حتى العمل في بناء المستوطنات الإسرائيلية. فأنت تستطيع في فلسطين أن تجمع بين المقاومة والتعايش مع الصهيونية ولكن لا تستطيع أن تقيم السياسات الأردنية على أساس المصالح الاقتصادية للبلد والمواطنين، على نحو ما تفعله تركيا (الأردوغانية).
على أي حال لا بأس برفض هذا المنطق، ولكنك لا تستطيع أيضاً انتقاد الأبطال المناضلين وهم يشاركون صباحاً في الاحتكار أو السياسات والبرامج والمواقف التي تضر بالمواطنين ولا يجدون في ذلك غضاضة طالما أنهم يؤيدون المقاومة ويرفضون التطبيع.
هذا التخلي عن المصالح والأولويات الوطنية أو التعالي عليها ومظنة وجود علاقة بين ذلك وبين مقاومة أو معارضة (معارضة ماذا) هو هروب من المسؤولية يلحق ضرراً بالغاً بالعقد الاجتماعي ويفسد العمل العام. فوظيفة الحكومات في العالم حماية مصالح البلد والمواطنين وتعظيمها وعلى هذا الأساس تقيّم مواقفها وسياساتها.
وهناك ظاهرة أردنية أخرى أسوأ كثيراً. فأنت لا تستطيع كمعارض أن تحب وطنك ولا حتى أن تلاحظ الانجازات والأشياء الجميلة في بلدك، وليس أمامك خيار لتكون معارضاً او مقاوماً سوى أن تكره بلدك وتتجنب الإشارة إلى مدينة أو جبل او تاريخ أو أن تمدح زهرة برية جميلة. ليس هناك سوى فسطاطين، فسطاط الحكومة، حيث يمكنك، إذا أردت، أن تحب بلدك كما تشاء، ولكن يجب أن تؤيد أيضاً السياسات الاحتكارية والتحالفات الضارة بالمواطنين بين المال والسلطة، أو فسطاط المقاومة، ولكنك لن تكون مقاوماً إلا اذا تخليت عن وعيك بمواطنتك ووجودك. والحال أنك في فسطاط الحكومة ليس أمامك خيار أيضاً سوى أن تكون طبالاً، وفي فسطاط المقاومة لا تملك سوى أن تكون شهيداً، ثم يمنح اسمك لأحد الشوارع.