بالرغم من أنّ فيلم “ذيب” وجد اهتماماً خاصّاً ودعماً من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، إلاّ أنّ قصة نجاح الفيلم تتجاوز المؤسسات الأردنية الرسمية، وخارج رحمها تماماً؛ إذ لم يتم تبنّيه من قبل الأوساط الفنية والثقافية، ووُلد كتجربة يتيمة، إلى أن سجّل نجاحاً استثنائياً، بتسميته لجوائز مسابقة الأوسكار، وليبدأ بعدها الاهتمام الوطني به!
حالة الفيلم “ذيب” لا تختلف بتاتاً عن قصص وحالات أخرى عديدة، تكشف عن حجم الإهمال والجحود والإعراض من قبل المؤسسات عموماً، عن العقليات الأردنية المبدعة التي كان من المفترض أن يتم الاحتفاء بها وتكريمها ومنحها مكانة عالية وقيمة مهمة لبناء المشروع الوطني الأردني وترسيخ رؤيته. إلاّ أنّ أصحاب هذه العقليات خارج “السيستم” تماماً، ليس بمعناه الضيّق المحدود، بل حتى بمعناه العام؛ أي إنّ الدولة لا تهتم بهم ولا تقدّرهم، فيما يجدون التقدير والاحترام والأهمية فقط في خارج بلادهم، فهم “العقل الإبداعي” المطحون داخلياً!
إذ بدلاً من هؤلاء “المفكّرين” و”المبدعين” القادرين على صوغ هوية وطنية منفتحة متقدمة، وبناء رسالة ثقافية وإعلامية وسياسية للجيل الجديد، والمساهمة في إرشاد الاستراتيجيات الداخلية، يتحكّم بمفاصل السياسات والحياة العامة أشخاص أقرب إلى الطبيعة التنفيذية، وهو أمر مطلوب ومهم، لكنّهم بعيدون عن التفكير الخلاّق الإبداعي الذي يقدم لنا الحلول غير التقليدية.
هل تريدون أمثلة أخرى ونماذج متنوعة؟! الدكتور فهمي جدعان، الذي كتبنا عنه مراراً، وهو أستاذ في الفلسفة والفكر العربي الإسلامي، تدرّس كتبه في جامعات العالم، وله مؤلفات على درجة عالية من الأهمية. لكنّ الرسالة الفكرية-الأيديولوجية من هذه المؤلفات هي التي كان من الممكن للأردن أن يتبنّاها في الجامعات والتعليم العالي والحكومي. ففي كتابيه “في الخلاص النهائي” و”تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات”، رؤى حضارية فكرية متقدمة، مؤصلة، لصوغ علاقة معاصرة بين الإسلام والعلمانية والليبرالية، أو بعبارة أخرى بين التدين والعصر والانفتاح والحرية، بما يساهم في بناء مجتمع مستنير، يؤمن بالتعددية واحترام الآخر وتقبله، ويمثّل نموذجاً حقيقياً في عالم الصراعات الدامية المحيطة اليوم.
ليس المقصود، هنا، إجراء “هندسة اجتماعية”، بل بناء رسالة حضارية إرشادية للدولة، واستلهامها في التعليم، بما يخدم السياسات الوطنية داخلياً وخارجياً. وكان يمكن الاستفادة من د. جدعان في توجيه رسائل الدراسات العليا في الجامعات والمؤسسات الدينية والتعليمية، ومنحه مرتبة معنوية عالية في الشأن الثقافي. لكنّ لم يتم القبول بعودته إلى الجامعات لأنّه بلغ سنّ التقاعد!
وفي الحقل نفسه، نجد شخصية أكاديمية ومؤرخا كبيرا مثل الدكتور محمد عدنان البخيت، الذي ترجم رؤية بناء جامعة آل البيت على أرض الواقع، بصورة نموذجية، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، فكانت الجامعة تدرّس المذاهب السنية والشيعية، وتضع مساقاً إجبارياً لمناهج البحث العلمي، ولمقدمة ابن خلدون، وتنسج علاقة خاصة مع المجتمع المحلي، بالتكامل الإنتاجي. وبالرغم من أنّه رئيس مجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان، إلاّ أنّ الاستثمار الحقيقي فيه من المفترض أن يتجاوز ذلك كثيراً!
تحدثنا سابقاً عن “نادي الإبداع” في الكرك، وهو مشروع مذهل للمهندس حسام الطراونة، يمثل نموذجاً في مواجهة الفراغ والانحراف والتطرف لدى الشباب، وتوجيه طاقاتهم الإبداعية. لكنّه يعمل وحيداً وكأنّه جزيرة معزولة!
ثمة مئات النماذج والأمثلة المبدعة والمفكّرة الأردنية، فهل يعقل ألا نملك إلى الآن نظرية اقتصادية علمية في الخيارات المطلوبة للاقتصاد الأردني، بالرغم من كل الاقتصاديين؟ فيما لا تتجاوز قيمة الاستراتيجيات الاقتصادية المزعومة التي أعدتها الحكومة ثمن الحبر الذي كتبت به!
فشلنا في الاستفادة من هذه الكوادر والطاقات والمؤهلات والخبرات والمبدعين، هو الخسارة الحقيقية.