من المهم أن نقرأ الآن تقريراً (في “الغد”) عن مسح دخل ونفقات الأسر (الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة للعام 2013)، بينما الحكومة تعرض مشروع قانون الموازنة للعام الحالي على مجلس النواب؛ حتى تكون الأبعاد المختلفة للصورة، المسكوت عنها، والتي تقدمها الحكومة بشكل وردي، واضحة للجميع!
وزير المالية يبشّرنا بأنّنا أمام إجراءات قاسية؛ ورئيس الحكومة يكرر قاعدته التي أصبح الجميع يحفظها: إمّا هذا أو الخطر على الاقتصاد الوطني، وبالتالي الاستقرار السياسي. إلاّ أنّ الأرقام الواردة على صعيد نسب الفقر والدخل لدى الأسر الأردنية، تشير إلى أنّ هناك مصدراً آخر مرعبا يهدد بعدم الاستقرار الاجتماعي، وهو النسبة المرعبة لأعداد الفقراء والمهددين بالفقر من زاوية، والتفاوت غير المنطقي ولا المقبول في الدخل بين الأسر الأردنية.
إذ وفقاً للمسح؛ فإنّ 230 ألف أسرة أردنية (نسبة 18 % من إجمالي الأسر الأردنية؛ البالغ عددها 1.253 مليون أسرة) لا يتجاوز دخلها 350 ديناراً شهرياً، وهي العائلات الأقل دخلاً من ضمن 15 شريحة. وإذا كان ثمّة مصطلح آخر لهذه الشريحة التي تكاد تصل إلى خمس المواطنين الأردنيين، فهم “المعدمون”، وليس الفقراء، لأنّ الـ350 ديناراً من المفترض (بمنطق الحساب اليومي البسيط المعروف) أن تغطي تكاليف السكن والطعام والشراب والوقود؛ فدخل هذه الأسر هو عملياً “سالب” (ما دون الصفر)!
وبالنظر إلى دخول “الأفراد”، فسنجد أنّنا أمام ما يقارب 950 ألف مواطن أردني دخله أقل من 350 ديناراً شهرياً، فيما يشير تقرير سابق للبنك الدولي (وفق “الغد”) إلى أنّ 18.6 % من السكان مهددون بالانضمام إلى الطبقة الفقيرة، التي تبلغ نسبتها 14.4 %، أي ما يصل إلى قرابة 33 % من السكان!
بالرغم من ذلك؛ فما أزال أرى أنّ هذه الأرقام تجميلية، ولا تعطي مؤشراً حقيقياً على حجم الفقر والحرمان في الأردن، والأهمّ من هذا وذاك مقدار التفاوت الكبير في مستوى المعيشة والدخل والإنفاق بين الأسر الأردنية، وهو مؤشّر على فشل سياسات تقوية الطبقة الوسطى وتعزيزها وحمايتها، وهي الطبقة التي تمثّل “صمام الأمان” الأول لأي استقرار سياسي، وأهميتها تعادل بالدرجة نفسها أهمية “الموازنة”. والخطر على الطبقة الوسطى وما تتعرض له من ضغوط وتهديد، يمثل أحد أبرز مصادر التهديد للأمن الوطني، في وقت أصبح فيه الخطر الداخلي أكثر إلحاحاً وأعظم من الخطر الخارجي!
ما المطلوب من الحكومة؟ المطلوب باختصار، تغيير في منهجية التفكير، بدلاً من التطبيق الحرفي فقط لأساليب وتوصيات رفع الإيرادات عبر الجباية؛ بناء فلسفة وطنية للسياسات الضريبية، بدلاً من التخبط اليومي فيها، بما يوفر أكبر قدر من العدالة؛ وإعادة “هيكلة النفقات” في الموازنة لتأهيل الخدمات الأساسية التي تخفف الضغوط على الطبقة الوسطى والعامة، وفي مقدمتها اليوم التعليم العام والصحة والنقل العام، وإيجاد وسائل ناجعة وفعّالة لمكافحة التهرب الضريبي، وتحقيق المساواة في الفرص، والحدّ الأدنى للأجور، وتعديل قانون العمل، وإعادة هيكلة سوق العمل. وكلها سياسات وطنية لا تلقى اهتماماً حقيقياً وجدياً من قبل الحكومة!
هنا نحن أمام أرقام رسمية (وإن كانت تخفف حجم المشكلة)، وليس كلاماً إنشائياً مرسلا على عواهنه. وما نتحدث عنه من تفاوت كبير في الدخول ليس ظاهرة صحيّة على الإطلاق، إذا كان مرتبطاً بالتخبط بالسياسات الاقتصادية عموماً، حتى أصبح من يزور بعض المناطق والأحياء والمحافظات يجد نفسه أمام عالمين مختلفين متجاورين في البلد نفسه!