حتى وهو يلقي خطابه الرسمي الأخير “حالة الاتحاد”، يحرص الرئيس الأميركي باراك أوباما على إظهار التبدل الكبير في سياسة بلاده تجاه قضايا الشرق الأوسط خلال عهده الممتد لثماني سنوات. فلأول مرة تميز إدارة أميركية بين مصادر التهديد لأمنها القومي ولحلفائها في المنطقة.
ويتبدى ذلك في تأكيد أوباما على أن تنظيم “داعش” ومثيلاته من الجماعات الإرهابية “لا يشكلون خطرا وجوديا على وطننا”. واستكثر توصيف بعض الدول للمواجهة مع الجماعات الإرهابية بأنها “حرب عالمية ثالثة”.
لم يكن قول أوباما بهذا الشأن مفاجئا؛ فقد تبنت إدارته في السنوات الأخيرة مقاربة تقوم على عدم التدخل العسكري المباشر في صراعات المنطقة، والتصرف بتردد وحذر حيال الأزمة السورية والتطورات في اليمن، وترك ملف الأزمة في ليبيا للحلفاء الأوروبيين.
وتستند هذه المقاربة في الأساس على استراتيجية الانسحاب التدريجي من بؤر الأزمات. وفي هذا الصدد، أوفت إدارة أوباما بوعدها الانسحاب من العراق، من دون القلق من تبعاته.
وفي سورية، قاومت إدارته ضغوط بعض الحلفاء بالغزو العسكري، واكتفت بتشكيل تحالف دولي بقيادتها لاحتواء خطر “داعش” عبر الضربات الجوية. واستبدلت خيار التدخل لإسقاط نظام بشار بدعم محدود للمعارضة “المعتدلة”. لكن على المسارين، لم تثمر خطط الإدارة الإميركية أي نتائج؛ فلا خطر الجماعة الإرهابية تراجع، بدليل انتقالها إلى طور العالمية وتنفيذ عمليات إرهابية في العديد من العواصم، ولا المعارضة السورية المعتدلة تمكنت من إيجاد موطئ قدم لها وسط جماعات أكثر تطرفا ونفوذا.
وفي مرحلة لاحقة، تخلت إدارة أوباما عن شعارها بإسقاط النظام، وأبرمت ما يمكن القول إنها صفقة مع موسكو؛ تمنح إدارة الرئيس فلاديمير بوتين دورا حاسما في تقرير مصير النظام، وتسوية الأزمة عبر آلية سياسية تمتد على مدار العامين المقبلين.
الاتفاق النووي مع إيران هو مصدر فخر سياسة أوباما الخارجية ومنجزها الوحيد في الشرق الأوسط، تقابله المصالحة مع كوبا في القارة الجارة لأميركا. وبقدر ما يعني هذا الاتفاق من مكاسب لأوباما، فإنه يمثل خيبة الأمل لحلفاء واشنطن الخليجيين.
ويمكن القول إن هذا الاتفاق شكل لحظة الافتراق الأولى بين إدارة أوباما والمملكة العربية السعودية. وليس من شك أن دول الخليج عموما ستكسر جرة الفخار احتفالا يوم يرحل أوباما عن البيت الأبيض.
ولم يكتف أوباما بتجاهل اعتراضات دول الخليج وإسرائيل على هذا الاتفاق، بل دأب على تقريع الحكومات الخليجية على سياساتها الداخلية، وعدم تلبية رغبات شعوبها في الإصلاح والديمقراطية. وكان هذا مبعث قلق وغضب شديدين في تلك الدول.
لو وضع المرء نفسه مكان المواطن الأميركي، لربما شعر بالامتنان لعهد أوباما الذي جنب شعبه وبلاده خوض مغامرات عسكرية مكلفة، وتعامل باقتدار مع القضايا التي تشكل تهديدا مباشرا لأمن بلاده، تاركا للآخرين حل مشاكلهم بأنفسهم.
لكن أوباما لا يستطيع أبدا ادعاء أي إنجاز في الشرق الأوسط؛ فقد فشل فشلا ذريعا في تحقيق وعوده بحل عادل لقضية الشعب الفلسطيني، وها هو يقترب من الرحيل، بينما معاناة الفلسطينيين جراء الاحتلال الإسرائيلي تزداد سوءا.
عاش مع الشعوب العربية لحظات زاهية يوم نزل الناس إلى الشوارع احتفالا بسقوط الدكتاتوريات، فيما أطلقت عليه إدارته “ثورات الربيع العربي”، وهو يقترب من الرحيل فيما الشوارع ذاتها تغرق ببحور الدم، والفوضى، والجماعات الإرهابية تبني لنفسها دولة في قلب الشرق الأوسط.